430ـ خطبة الجمعة: فوائد المرض

 

 430ـ خطبة الجمعة: فوائد المرض

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، مَا من خَيرٍ عَاجِلٍ ولا آجِلٍ، ظَاهِرٍ ولا بَاطِنٍ، إلا وتَقْوَى اللهِ السَّبِيلُ المُوصِلُ إِلَيهِ، ومَا من شَرٍّ عَاجِلٍ ولا آجِلٍ، ظَاهِرٍ ولا بَاطِنٍ، إلا وتَقْوَى اللهِ حِرْزٌ مَتِينٌ، للسَّلامَةِ مِنهُ، والنَّجَاةِ من ضَرَرِهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، الدُّنيَا دَارُ بَلاءٍ وأَمرَاضٍ، وأَسْقَامٍ وأَوجَاعٍ، ومَا من إِنسَانٍ إلا وسَيُوَاجِهَهُ فِيهَا مَرَضٌ وعَافِيَةٌ، وسُرُورٌ وفَرَحٌ وحُزْنٌ، وسَرَّاءُ وضَرَّاءُ، لأَنَّ العَبدَ مَا خُلِقَ إلا للابْتِلاءِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، الكَثِيرُ من النَّاسِ يُوَاجِهُ المَرَضَ، لكنَّهُ يَنْسَى الصَّبْرَ عَلَيهِ، ويَنْسَى مَا في المَرَضِ من فَوَائِدَ جَمَّةٍ في الدُّنيَا والآخِرَةِ، لأَنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَخْلُقْ شَيْئَاً إلا وفِيهِ نِعْمَةٌ، ولولا العَذَابُ لَمَا عَرَفَ المُنَعَّمُونَ قَدْرَ النِّعْمَةِ، ولولا اللَّيلُ لَمَا عُرِفَ قَدْرُ النَّهَارِ، ولولا المَرَضُ لَمَا عُرِفَ قَدْرُ الصِّحَّةِ والعَافِيَةِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، كَثِيرٌ من النَّاسِ ابْتَلاهُمُ اللهُ تعالى بالمَرَضِ، فإذا بِهِم يَتَسَخَّطُونَ ويَشْكُونَ ولا يَصْبِرُونَ على ذلكَ المَرَضِ، وخَاصَّةً إذا كَانَتِ الأَمرَاضُ مُسْتَعْصِيَةً، فَتَرَى الوَاحِدَ مِنهُم يَجْزَعُ ويَتَسَخَّطُ، ونَسِيَ هؤلاءِ قَولَ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئَاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ واللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون﴾.

مَرَضُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

يَا عِبَادَ اللهِ، قُولُوا لِكُلِّ مَرِيضٍ: هَل تَعْلَمُونَ بِأَنَّ نَبِيَّكُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ بَلاءً، وكَانَ يَشْتَدُّ عَلَيهِ المَرَضُ أَكْثَرَ من غَيْرِهِ؟

روى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدَاً أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وروى ابن ماجه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ فَوَجَدْتُ حَرَّهُ بَيْنَ يَدَيَّ فَوْقَ اللِّحَافِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَشَدَّهَا عَلَيْكَ؟

قَالَ: «إِنَّا كَذَلِكَ يُضَعَّفُ لَنَا الْبَلَاءُ، وَيُضَعَّفُ لَنَا الْأَجْرُ».

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟

قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ».

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: «ثُمَّ الصَّالِحُونَ، إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُهُمْ إِلَّا الْعَبَاءَةَ يُحَوِّيهَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ».

لماذا كَانُوا يَفْرَحُونَ بالبَلاءِ كَمَا نَفْرَحُ بالرَّخَاءِ؟ لأَنَّهُم كَانُوا يَرَونَ كُلَّ عَطَاءٍ ومَنْعٍ من اللهِ نِعْمَةً من اللهِ تعالى عَلَيهِم.

فَوَائِدُ المَرَضِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، المَرَضُ نِعْمَةٌ من اللهِ تعالى يَحْمِلُ في طَيَّاتِهِ فَوَائِدَ لا يَعْلَمُهَا إلا اللهُ تعالى، من هذهِ الفَوَائِدِ:

أولاً: أَنَّهُ سَبَبٌ لِدُخَولِ الجَنَّةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، من فَوَائِدِ المَرَضِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِدُخَولِ الجَنَّةِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ» يُرِيدُ عَيْنَيْهِ.

وروى الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ». والنَّفْسُ تَكْرَهُ المَرَضَ.

ثانياً: أَنَّهُ سَبَبٌ لِتَكْفِيرِ الخَطَايَا:

يَا عِبَادَ اللهِ، من فَوَائِدِ المَرَضِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِتَكْفِيرِ الخَطَايَا، روى الترمذي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وروى الشيخان عَن عَبْدُ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكَاً شَدِيدَاً، فَمَسَسْتُهُ بِيَدِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكَاً شَدِيدَاً.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ».

فَقُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَجَلْ».

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذَىً مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللهُ لَهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا».

وروى الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ».

ثالثاً: أَنَّهُ سَبَبٌ لِصَبِّ الثَّوَابِ عَلَيهِ صَبَّاً:

 يَا عِبَادَ اللهِ، من فَوَائِدِ المَرَضِ أَنَّهُ يُصَبُّ على المَرِيضِ الثَّوَابُ يَومَ القِيَامَةِ صَبَّاً، يَحْسُدُهُ عَلَيهِ أَهْلُ العَافِيَةِ في الدُّنيَا، روى الترمذي عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ».

فَأَهْلُ البَلاءِ يُؤْتَى بِهِم يَومَ القِيَامَةِ فلا يُنْصَبُ لَهُم مِيزَانٌ، ولا يُنْشَرُ لَهُم دِيوَانٌ، ويُصَبُّ عَلَيهِمُ الأَجْرُ صَبَّاً.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، في الخِتَامِ أَقُولُ لِنَفْسِي ولِكُلِّ وَاحِدٍ فِينَا: يَا مَن مَنَّ اللهُ عَلَيهِ بالعَافِيَةِ والصِّحَّةِ بَعدَ نِعْمَةِ الإِيمَانِ، لِنَسْجُدْ لِرَبِّنَا شُكْرَاً على هذهِ النِّعْمَةِ، وعَلَينَا أن نَسْتَحْيِي من اللهِ تعالى، واللهِ إِنَّهُ لَمِنَ العَجِيبِ أن يَجْتَرِئَ أَحَدُنَا على مَعْصِيَةِ اللهِ بِنِعْمَةِ اللهِ، يَا مَن اسْتَخْدَمَ نِعْمَةَ البَصَرِ في تَتَبُّعِ العَورَاتِ والحَرَامِ، أَمَا تَخْشَى أن يَذْهَبَ اللهُ بِبَصَرِكَ؟

يَا مَن اسْتَخْدَمْتَ قُوَّتَكَ في البَطْشِ والظُّلْمِ، أَمَا تَخْشَى أن يَشُلَّ اللهُ تعالى أَطْرَافَكَ؟

يَا مَن اسْتَخْدَمْتَ قَدَمَكَ في مَعْصِيَةِ اللهِ، أَمَا تَخْشَى أن يُفْقِدَكَ اللهُ تعالى نِعْمَةَ القُوَّةِ؟

يَا مَن اسْتَخْدَمْتَ مَنْزِلَتَكَ بَينَ النَّاسِ في ظُلْمِ العِبَادِ والتَّسْفِيهِ والتَّحْقِيرِ والاسْتِكْبَارِ عَلَيهِم، أَمَا تَخْشَى أن يَرُدَّكَ اللهُ تعالى إلى أَرْذَلِ العُمُرِ؟

فَيَا أَهْلَ العَافِيَةِ والابْتِلاءِ، لِنَتَذَكَّرْ جَمِيعَاً قَولَ اللهِ تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾.

فَلْنَكُنْ من الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، ومن الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلاءِ، لِنَكُونَ من الفَائِزِينَ يَومَ القِيَامَةِ.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بذلكَ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

 

الجمعة: 14/جمادى الثانية/1435هـ، الموافق: 3/نيسان / 2015م