432ـ خطبة الجمعة: أعظم واجب كُلفنا به

 

 432ـ خطبة الجمعة: أعظم واجب كُلفنا به

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، رَبُّنَا عزَّ جلَّ خَلَقَنَا لأَمْرٍ عَظِيمٍ يَجِبُ عَلَينَا أن نَأْتِيَ بِهِ، وهوَ أَوَّلُ مَا سَنُسْأَلُ عَنهُ يَومَ القِيَامَةِ، وهوَ الذي أُخِذَ عَلَيهِ العَهْدُ مِنَّا ونَحنُ في صُلْبِ أَبِينَا آدَمَ عَلَيهِ السَّلامُ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾.

وقَد أَقْسَمَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ بِأَنَّهُ من أَخَلَّ بهذا الأَمْرِ العَظِيمِ فَهُوَ من الخَاسِرِينَ، قَالَ تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.

وأَقْسَمَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ كذلكَ بِأَنَّ العَبدَ إذا أَخَلَّ بهذا الأَمْرِ فَسَوفَ يُرَدُّ إلى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، قَالَ تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾. هذا الأَمْرُ العَظِيمُ الذي خُلِقْنَا من أَجْلِهِ هوَ الإِيمَانُ باللهِ تعالى.

أَعْظَمُ وَاجِبٍ كُلِّفْنَا بِهِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الإِيمَانُ باللهِ تعالى أَعْظَمُ وَاجِبٍ كَلَّفَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ بِهِ، وهوَ حَقُّ اللهِ تعالى على عِبَادِهِ، ومن حَقَّقَهُ كَانَ لَهُ الفَوْزُ والنَّجَاحُ والفَلاحُ في الدُّنيَا والآخِرَةِ، ومن أَخَلَّ بِهِ كَانَ لَهُ الخُسْرَانُ المُبِينُ، ولا فَرْقَ في ذلكَ بَينَ الأُمَمِ والأَفْرَادِ، فالكُلُّ سِيَّان.

يَا عِبَادَ اللهِ، حَيَاةٌ بِلا إِيمَانٍ لا قيمَةَ لَهَا، حَيَاةٌ بِلا إِيمَانٍ تَعَاسَةٌ وشَقَاءٌ، حَيَاةٌ بِلا إِيمَانٍ حَيَاةُ ضَنْكٍ وجَحِيمٍ، ومُجْتَمَعٌ بِلا إِيمَانٍ مُجْتَمَعٌ تَافِهٌ مَهِينٌ رَخِيصٌ، لأَنَّ غَايَةَ أَهْلِهِ لا تَتَجَاوَزُ شَهَوَاتِ بُطُونِهِم وفُرُوجِهِم ﴿يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوَىً لَهُمْ﴾.

أَثَرُ الإِيمَانِ في حَيَاةِ الإِنسَانِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الإِيمَانُ هوَ الحَيَاةُ الحَقِيقِيَّةُ للإِنسَانِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.

لِذَا لا يَجُوزُ أن يَكُونَ أَمرُهُ هَامشِيَّاً في حَيَاةِ الإِنسَانِ، فَهُوَ قَضِيَّةُ القَضَايَا، وهوَ الذي يَجْعَلُ القَلْبَ مُطْمَئِنَّاً، وهوَ الذي يَشْرَحُ صَدْرَ صَاحِبِهِ، وبِهِ تَسْكُنُ النَّفْسُّ، لأَنَّ صَاحِبَ الإِيمَانِ يَعْلَمُ بِأَنَّ مَقَالِيدَ السَّمَاوَاتِ والأَرضِ بِيَدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ويَعْلَمُ بِأَنَّ الذي يُحْيِي ويُمِيتُ هوَ اللهُ تعالى، ويَعْلَمُ بِأَنَّ الذي يُعْطِي ويَمْنَعُ، ويَخْفِضُ ويَرْفَعُ، إِنَّمَا هوَ اللهُ تعالى، ويَعْلَمُ بِأَنَّ الذي يُؤْتِي المُلْكَ، ويَنْزِعُ المُلْكَ، هوَ اللهُ تعالى.

فَصَاحِبُ الإِيمَانِ سَعِيدٌ إذا شَقِيَ النَّاسُ، وفَرِحٌ إذا حَزِنَ النَّاسُ، فالإِيمَانُ هوَ أَعْظَمُ كَنْزٍ يَكْنِزُهُ العَبدُ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا، وأَعْظَمُ ثَرْوَةٍ يَكْتَنِزُهَا العَبدُ في هذهِ الحَيَاةِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، الإِيمَانُ لَهُ أَثَرٌ كَبِيرٌ في حَيَاةِ الإِنسَانِ، الإِيمَانُ جَعَلَ رِجَالاً ونِسَاءً صَارَ جَبِينُ التَّارِيخِ نَاصِعَاً بِهِم، الإِيمَانُ يَغْرِسُ في نَفْسِ المُؤْمِنِ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ، والتَّسْلِيمَ لِقَدَرِهِ، والصَّبْرَ على بَلائِهِ، فَكَم يَتَعَرَّضُ المَرْءُ للابْتِلاءِ والمِحَنِ، والمَصَائِبِ والإِحَنِ، بَيْدَ أَنَّ المُؤْمِنَ يَجْعَلُ المِحْنَةَ مِنْحَةً، ويُبَدِّلُ اليَأْسَ إلى تَفَاؤُلٍ ورَجَاءٍ، والمُصِيبَةَ إلى فُرْصَةٍ للأَجْرِ وحُسْنِ الجَزَاءِ، ولِسَانُ حَالِهِ وقَالِهِ يُرَدِّدُ قَولَ اللهِ تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

إِنَّ قَضَاءَ اللهِ تعالى أَحَبُّ إِلَيَّ من بَصَرِي:

يَا عِبَادَ اللهِ، كُلُّنَا يَسْمَعُ بِسَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، هذا الرَّجُلُ العَظِيمِ الذي فَدَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِأَبِيهِ وأُمِّهِ يَومَ أُحُدٍ، فَقَالَ لَهُ: «ارْمِ سَعْدُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» رواه الترمذي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

والذي قَالَ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «هَذَا خَالِي، فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ» رواه الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

هذا الرَّجُلُ الذي شَبَّ على طَاعَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِنِعْمَةِ الإِيمَانِ وهوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، هذا الذي كَانَ ثُلُثَ الإِسْلامِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، حِينَ كَانَ ثَالِثَ ثَلاثَةٍ أَسْلَمُوا من الرِّجَالِ، اِبْتَلاهُ اللهُ تعالى بِفَقْدِ بَصَرِهِ في آخِرِ حَيَاتِهِ، وكَأَنَّ الحَقَّ جَلَّ جَلالُهُ أَرَادَ أن يَزِيدَ في دَرَجَاتِهِ عِنْدَهُ، وذلكَ لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ» يُرِيدُ عَيْنَيْهِ. رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ، قَدِمَ سَعْدٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ إلى مَكَّةَ وقَد كُفَّ بَصَرُهُ، وكَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُهْرَعُونَ إِلَيهِ لِيَدْعُوَ لَهُم، فَجَعَلَ يَدْعُو لَهُم.

قَالَ عَبدُ اللهِ بنُ السَّائِبِ: فَأَتَيْتُهُ وأَنَا غُلامٌ فَتَعَرَّفتُ إِلَيهِ فَعَرَفَنِي.

فَقُلتُ لَهُ: يَا عَمُّ، أَنتَ تَدْعُو للنَّاسِ فَيُشْفَوْنَ، فَلَو دَعَوتَ لِنَفْسِكَ لَرَدَّ اللهُ عَلَيكَ بَصَرَكَ.

فَتَبَسَّمَ، ثمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ قَضَاءَ اللهِ أَحَبُّ إِلَيَّ من بَصَرِي.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الإِيمَانُ باللهِ تعالى حَقَّ الإِيمَانِ يَجْعَلُ العَبدَ رَاضِيَاً وفَرِحَاً ومَسْرُورَاً بِمَا يَجِدُ من سَرَّاءَ وضَرَّاءَ، ومن يُسْرٍ وعُسْرٍ، ومن شِدَّةٍ ورَخَاءٍ، يَرْضَى فلا يَقْلَقُ ولا يَضِيقُ صَدْرُهُ، ولا يَسْتَعْجِلُ ولا يَسْتَبْعِدُ الغَايَةَ.

يَا عِبَادَ اللهِ، الإِيمَانُ باللهِ تعالى لَهُ أَثَرٌ كَبِيرٌ في شَخْصِيَّةِ الإِنسَانِ، فَصَاحِبُهُ لا يَعْرِفُ اليَأْسَ ولا القُنُوطَ، وهوَ مُتَفَائِلٌ دَائِمَاً.

يُذْكَرُ بأَنَّ امْرَأَةً كَانَت تَمْشِي فَتَعَثَّرَتْ، فَانْقَطَعَتْ إِصْبُعُهَا فَضَحِكَتْ.

فَقِيلَ لَهَا: أَتَضْحَكِينَ، وقَد انْقَطَعَتْ إِصْبُعُكِ؟

فَقَالَتْ: حَلاوَةُ أَجْرِهَا أَنْسَتْنِي مَرَارَةَ ذِكْرِهَا.

يَا عِبَادَ اللهِ، لِنَسْأَلِ اللهَ تعالى زِيَادَةً في إِيمَانِنَا، حَتَّى نَتَحَقَّقَ بِقَولِهِ تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بذلكَ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

 

الجمعة: 28/جمادى الثانية/1435هـ، الموافق: 17/نيسان / 2015م