30ـ أشراط الساعة: التناكر بين الناس

 

 أشراط الساعة

30ـ التناكر بين الناس

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وأَشْرَاطِهَا التي أَخْبَرَ عَنهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، والتي ظَهَرَتْ، وَمَا زَالَتْ، بَل هيَ في ازْدِيَادٍ، التَّنَاكُرُ بيْنَ النَّاسِ.

لقد كَانَ النَّاسُ قَدِيمَاً أَشْبَهَ بالعَائِلَةِ الوَاحِدَةِ، ولَكِنَّهُم صَارُوا مُخْتَلِفِينَ، فقد مَزَّقَتْ بَيْنَهُمُ الدُّنيَا، وشَتَّتَتْ شَمْلَهُمُ الآرَاءُ والمَذَاهِبُ والأَحْزَابُ، فَلَمْ يَعُدِ الأَخُ يَسْأَلُ عَن أَخِيهِ، وَلَمْ يَزُرِ الوَلَدُ أَبَاهُ أَو أُمَّهُ إلا في المُنَاسَبَاتِ، ولَمْ يَعُدْ يَصِلُ القَرِيبُ قَرِيبَهُ إلا في مُنَاسَبَاتِ الأَفْراحِ والأَتْرَاحِ، بَل صَارَ الجَارُ لا يَعْرِفُ جَارَهُ، مَعَ تَأْكِيدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ على التَّوْصِيَةِ بالجَارِ.

روى الإمام أحمد عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَن السَّاعَةِ.

فَقَالَ: «﴿عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾. وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ بِمَشَارِيطِهَا، وَمَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهَا، إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا فِتْنَةً وَهَرْجَاً».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، الْفِتْنَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَالْهَرْجُ مَا هُوَ؟

قَالَ: «بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْقَتْلُ، وَيُلْقَى بَيْنَ النَّاسِ التَّنَاكُرُ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدَاً».

وروى أبو يَعلَى عن قرظَةَ بنِ حَسَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى في يَوْمِ جُمُعَةٍ على مِنْبَرِ البَصْرَةِ يَقُولُ: سُئِلَ رَسُولُ اللِه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَن السَّاعَةِ ـ وَأَنَا شَاهِدٌ ـ فَقَالَ: «لا يَعْلَمُهَا إلا اللهُ، لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلا هُوَ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكُم بِمَشَارِيطِهَا، وَمَا بَيْنَ أَيْدِيهَا، إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا رَدْمَاً من الفِتَنِ، وَهَرْجَاً».

فَقِيلَ: وَمَا الهَرْجُ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «هُوَ بِلِسَانِ الحَبَشَةِ القَتْلُ، وَأَنْ تَخِفَّ قُلُوبُ النَّاسِ، وَأَنْ يُلْقَى بَيْنَهُمُ التَّنَاكُرُ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَعْرِفُ أَحَدَاً، وَيُرْفَعُ ذَوُو الحِجَى، وَتَبْقَى رَجْرَجَةٌ من النَّاسِ لا تَعْرِفُ مَعْرُوفَاً، ولا تُنْكِرُ مُنْكَرَاً».

وَاقِعُ مُجْتَمَعَاتِ المُسْلِمِينَ:

أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ وَاقِعَ مُجْتَمَعَاتِ المُسْلِمِينَ اليَومَ مَرِيرٌ جِدَّاً، بِسَبَبِ التَّنَاكُرِ بَيْنَ النَّاسِ، لِكَثْرَةِ الفِتَنِ والمِحَنِ والغِلِّ والحِقْدِ والحَسَدِ واسْتِيلاءِ المَادَّةِ على قُلُوبِ النَّاسِ وعُقُولِهِم، حَيثُ يَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُم لِحُظُوظِ نَفْسِهِ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِمَصَالِحِ الآخَرِينَ ولا بِحُقُوقِهِم، وبذلكَ انْتَشَرَتِ الأَنَانِيَّةُ البَغِيضَةُ، وأَصْبَحَ كُلُّ شَخْصٍ يَعِيشُ في نِطَاقِ شَهَوَاتِهِ وأَهْوَائِهِ غَيْرَ عَابِئٍ بالآخَرِينَ، وهَمُّهُ نَفْسُهُ وأَهْلُهُ إِنْ لَمْ تَنْعَدِمْ تِلكَ الرَّابِطَةُ أَيْضَاً في بَعْضِ البُيُوتِ، حَتَّى أَصْبَحَ الجَارُ لا يَعْرِفُ للجَارِ حَقَّاً، بَل قَد يَشْتَكِي من سُوءِ جِوَارِهِ، ويَتَمَنَّى اليَومَ الذي يَرَاهُ فِيهِ إِمَّا بارْتِحَالٍ أو بِمَوْتٍ، وكُلُّ ذلكَ بِسَبَبِ اتِّبَاعِ المَدَنِيَّةِ المُزَيَّفَةِ، والابْتِعَادِ عَن هَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الذي مَدَارُهُ على الأُخُوَّةِ الإِيمَانِيَّةِ التي تَجْمَعُهُم على الحُبِّ في اللهِ، والتَّعَاوُنِ على البِرِّ والتَّقْوَى، هذا إذا كَانُوا بَعِيدِينَ عَن بَعْضِهِمُ البَعْضِ في المَسَاكِنِ، أَمَّا إذا كَانُوا جِيرَانَاً فالحُقُوقُ أَعْظَمُ، ولَكِنَّ الوَاقِعَ غَيْرُ ذلكَ.

فالإِفْسَادِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ بَعْضِهِم على بَعْضٍ، والنَّمِيمَةُ والغِيبَةُ والبُهْتَانُ وأَذِيَّةُ الجِيرَانِ بِشَتَّى الطُّرُقِ والأَسَالِيبِ، من خِدَاعٍ ومَكْرٍ.

﴿وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد سَاءَ حَالُ الكَثِيرِ من النَّاسِ في عَلاقَاتِهِم مَعَ بَعْضِهِمُ البَعْضِ، حَتَّى وَقَعَ بَعْضُهُم تَحتَ قَوْلِ اللهِ تعالى في حَقِّ المُنَافِقِينَ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ واللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾.

لقد وَقَعَ التَّنَاكُرُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى أَصْبَحَ الشَّخْصُ يَلْقَى غَيْرَهُ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ بَشُوشٍ، واسْتِقْبَالٍ حَارٍ لِيُثْبِتَ لَهُ أُخُوَّتَهُ، ولَكِنَّهُ في الخَفَاءِ مِثْلُ الأَفْعَى، عَدُوٌّ لَدُودٌ يُظْهِرُ خِلافَ مَا يُبْطِنُ، مَا إِنْ أُتِيحَتْ لَهُ فُرْصَةٌ في الظَّلامِ دُونَ عِلْمِ ذلكَ الشَّخْصِ الآخَرِ إلا وهَمَّ بِكُلِّ سُوءٍ فِيهِ، هؤلاءِ هُمْ إِخْوَانٌ في العَلانِيَةِ، وأَعْدَاءٌ في السَّرِيرَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ إِخْوَانُ الْعَلَانِيَةِ، أَعْدَاءُ السَّرِيرَةِ».

فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟

قَالَ: «ذَلِكَ بِرَغْبَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، وَرَهْبَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ».

وروى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ، أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ كَتَبَ إلى أَبِي عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذِ بن جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ أَمَرَ هَذِهِ الأُمَّةِ سَيَرْجِعُ فِي آخِرِ زَمَانِهَا إِلَى أَنْ يَكُونُوا إِخْوَانَ الْعَلانِيَةِ أَعْدَاءَ السَّرِيرَةِ، وَلَسْتُمْ بِأُولَئِكَ وَلَيْسَ هَذَا بِزَمَانِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ زَمَانٌ تَظْهَرُ فِيهِ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ، يَكُونُ رَغْبَةُ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى بَعْضٍ لِصَلاحِ دُنْيَاهُمْ

أيُّها الإخوة الكرام: هذا التَّنَاكُرُ بَيْنَ القُلُوبِ وَصَلَ إلى ذَوِي القُرْبَى والأَرْحَامِ والجِيرَانِ، بِسَبَبِ سُوءِ المُعَامَلَةِ، وَهَمَّ كُلُّ شَخْصٍ على مَصَالِحِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وظَهَرَ الفُحْشُ والتَّفَحُّشُ في الكَلامِ والأَفْعَالِ، روى الإمام أحمد عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنهُما، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَالتَّفَاحُشُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَسُوءُ الْمُجَاوَرَةِ».

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ هذا الوَاقِعَ المَرِيرَ الذي وَصَلْنَا إِلَيهِ من التَّنَاكُرِ والتَّدَابُرِ والتَّحَاسُدِ لَيسَ من الإيمَانِ في شَيْءٍ، فَمَن أَحَبَّ نَفْسَهُ، ورَضِيَ لَهَا مَا لَمْ يَرْضَ لِغَيْرِهَا فَهُوَ نَاقِصُ الإِيمَانِ، روى الشيخان عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». فَأَينَ تَحْقِيقُ هذا الحَدِيثِ اليَومَ في وَاقِعِنَا؟

لقد حَصَلَ التَّنَاكُرُ والاخْتِلافُ بَيْنَ القُلُوبِ، وحَصَلَ الصِّرَاعُ، واحْتَدَمَ النِّزَاعُ بَيْنَ النَّاسِ من أَجْلِ الدُّنيَا ودَرَجَاتِهَا ومَنَاصِبِهَا، وتَرَكُوا النَّعِيمَ المُقِيمَ الذي لا يَحُولُ ولا يَزُولُ، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾.

لَو أَدْرَكْنَا مَعْنَى هذهِ الآيَةِ وآيَاتٍ أُخْرَى مِثْلِهَا لَمَا رَغِبَ أَحَدٌ في دُنيَا زَائِلَةٍ، واشْتَرَى بِهَا حَيَاةً بَاقِيَةً، ولَكِنْ ذُهِلَتِ النُّفُوسُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 24/رجب /1436هـ، الموافق: 13/أيار / 2015م