420ـ خطبة الجمعة: ماذا زرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس صحابته؟

 

 420ـ خطبة الجمعة: ماذا زرع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في نفوس صحابته؟

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، يَجِبُ عَلَينَا أن نَعلَمَ عِلْمَ اليَقِينِ بأنَّ الإِسلامَ يَنظُرُ إلى النَّفسِ الإِنسَانِيَّةِ بِشَكلٍ عَامٍّ، أَنَّهَا مُكَرَّمَةٌ ومُعَظَّمَةٌ، وهذا الأَمْرُ على إِطْلاقِهِ، ولَيسَ فِيهِ استِثنَاءٌ بِسَبَبِ لَونٍ أو جِنْسٍ أو دِينٍ، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾.

ومن هذا المُنطَلَقِ كَانَ يَتَعَامَلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ المُخَالِفِينَ لَهُ والمُنكِرِينَ عَلَيهِ.

لقد كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَعَامَلُ مَعَ النُّفُوسِ البَشَرِيَّةِ على أَسَاسٍ أَنَّهَا مُكَرَّمَةٌ، ولا يَجُوزُ إِهَانَتُهَا أو ظُلْمُهَا، أو التَّعَدِّي على حُقُوقِهَا، أو التَّقلِيلُ من شَأنِهَا، وهذا وَاضِحٌ من خِلالِ القُرآنِ العَظِيمِ، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾. وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾. وهذا أَمْرٌ عَامٌّ يَشمَلُ جَمِيعَ النُّفُوسِ.

مَوقِفٌ رَائِعٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ، نَحنُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى التَّعَرُّفِ على أَخلاقِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وسِيرَتِهِ العَطِرَةِ، فَلَقَد عَلَّمَنَا بِحَالِهِ وقَالِهِ وفِعلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى الإمام مسلم عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ كَانَا بِالْقَادِسِيَّةِ، فَمَرَّتْ بِهِمَا جَنَازَةٌ فَقَامَا.

فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ. ـ يَعنِي: من مَجُوسِ فَارِسَ ـ

فَقَالَا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ.

فَقِيلَ: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ.

فَقَالَ: «أَلَيْسَتْ نَفْساً!».

يَا عِبَادَ اللهِ، هذهِ هيَ النَّظْرَةُ الإِسلامِيَّةُ للنَّفسِ البَشَرِيَّةِ، لقد زَرَعَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في نُفُوسِ المُسلِمِينَ التَّقدِيرَ والاحتِرَامَ والرَّحمَةَ لِكُلِّ نَفسٍ إِنسَانِيَّةٍ، وذلكَ على الإِطلاقِ، لقد قَامَ وقَالَ: «أَلَيْسَتْ نَفْساً!» بَعدَ أن عَلِمَ أَنَّهُ يَهُودِيٌّ.

يَا عِبَادَ اللهِ، أَنتُم تَعلَمُونَ تَعَنُّتَ اليَهُودِ وحِقْدَهُم وبُغْضَهُم لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وتَعلَمُونَ إِيذَاءَهُمُ المَعنَوِيَّ والمَادِّيَّ، مَعَ كُلِّ هذا العِدَاءِ والتَّعَنُّتِ وَقَفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِجَنَازَةِ وَاحِدٍ مِنهُم، وهوَ رَجُلٌ غَيرُ مَعرُوفٍ، حَتَّى لا يُقَالَ: إِنَّهُ أَسْدَى مَعْرُوفَاً مَرَّةً للمُسلِمِينَ، أو كَانَ صَاحِبَ خُلُقٍ حَسَنٍ، لأنَّ الصَّحَابَةَ عَيَّنُوهُ بِصِفَتِهِ لا بِاسْمِهِ، وبَرَّرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وُقُوفَهُ بِقَولِهِ: «أَلَيْسَتْ نَفْساً!» ولَم يَذْكُرْ فَضِيلَةً مُعَيَّنَةً لَهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ، هذا المَوقِفُ رَسَخَ في نُفُوسِ الصَّحَابَةِ والذينَ جَاؤُوا من بَعدِهِم، حَتَّى دَفَعَ قَيسَ بنَ سَعْدٍ وسَهْلَ بنَ حُنَيفٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، إلى أن يَقِفَا لِجَنَازَةِ رَجُلٍ مَجُوسِيٍّ يَعبُدُ النَّارَ.

﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ، لقد رَبَّى الإِسلامُ أَتبَاعَهُ على قَبُولِ الآخَرِينَ، لأنَّ الاختِلافَ بَينَ النَّاسِ لَيسَ أَمْرَاً مُحتَمَلاً، بل هوَ أَمْرٌ حَتْمِيٌّ، ولَن يُوجَدَ زَمَانٌ أَبَدَاً يَتَّفِقُ فِيهِ النَّاسُ جَمِيعَاً على رَأْيٍ وَاحِدٍ في قَضِيَّةٍ (مَا) بِمَا فِيهَا قَضِيَّةُ الأُلُوهِيَّةِ والنُّبُوَّةِ، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، مُهِمَّةُ المُسلِمِ أن يُبَلِّغَ رِسَالَةَ اللهِ تعالى، مُهِمَّةُ المُسلِمِ أن يُبَشِّرَ ويُنذِرَ، مُهِمَّةُ المُسلِمِ أن يُذَكِّرَ، قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، إنَّ عِنَادَ قُرَيشٍ والمُنَافِقِينَ وأَهلِ الكِتَابِ،و الصَّدَّ عن سَبِيلِ اللهِ، وفِتنَةَ المُسلِمِينَ عن دِينِهِم، لَم يُوَرِّثْ في قَلبِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شُعُورَاً بالانتِقَامِ، أو رَغبَةً في الكَيدِ والتَّنكِيلِ، إِنَّمَا على العَكسِ من ذلكَ تَمَامَاً، لقد كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَشعُرُ بِأَنَّهُم مَرضَى يَحتَاجُونَ إلى طَبِيبٍ، أو حَيَارَى يَحتَاجُونَ إلى دَلِيلٍ، فَجَاءَهُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَحمَةً، وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.

وقَالَ عن ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا رَحمَةٌ مُهْدَاةٌ» رواه الحاكم عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

لقد كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَرِيصَاً على إِيصَالِ دَعْوَتِهِ إلى النَّاسِ جَمِيعَاً، من مُشرِكٍ وكِتَابِيٍّ ومَجُوسِيٍّ، كَانَ يَقُولُ للنَّاسِ حُسْنَاً، ويَدعُو إلى سَبِيلِ رَبِّهِ بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، ويُجَادِلُهُم بالتي هيَ أَحسَنُ.

بل كَانَ يَحزَنُ حُزنَاً شَدِيدَاً على مَن رَدَّ عَلَيهِ دَعْوَتَهُ، حَتَّى نَهَاهُ اللهُ عن ذلكَ بِقَولِهِ: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾.

ومَا كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَضْغَطُ على أَحَدٍ للدُّخُولِ بالإِسلامِ، بل كَانَ يَجعَلُ قَولَ اللهِ تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾. مَنهَجَاً في حَيَاتِهِ.

عُذْرَاً يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللهِ، لقد أَخطَأنَا طَريقَ الدَّعْوَةِ إلى دِينِنَا، عِندَمَا جَهِلنَا سِيرَتَكَ العَطِرَةَ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيكَ رَدَّاً جَمِيلاً يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 3/ربيع الثاني/1435هـ، الموافق: 23/كانون الثاني/ 2015م