424ـ خطبة الجمعة: خسارة الدنيا لا قيمة لها أمام ربح الآخرة

 

 424ـ خطبة الجمعة: خسارة الدنيا لا قيمة لها أمام ربح الآخرة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، كَثِيرٌ من النَّاسِ مُقِيمُونَ على مَعصِيَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ويَسْتُرُهُمُ اللهُ تعالى، ويَحْفَظُ عَلَيهِمُ النِّعمَةَ، بَل وَيَزِيدُهَا، فَيَظُنُّ هؤلاءِ أنَّ المَعصِيَةَ هَيِّنَةٌ حَقِيرَةٌ، ولولا أَنَّهَا كذلكَ لَعَجَّلَ اللهُ تعالى لَهُمُ العُقُوبَةَ في الدُّنيَا، بَل رُبَّمَا أن يَصِلَ بِهِمُ الحَالُ إلى أن يَهتِكُوا سِتْرَ اللهِ تعالى عَلَيهِم، فَيُجَاهِرُونَ بالمَعصِيَةِ جِهَارَاً نَهَارَاً، ونَسِيَ هؤلاءِ أنَّ حِلْمَ اللهِ تعالى اسْتِدْرَاجٌ لَهُم من اللهِ سُبحَانَهُ وتعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ، تَدَبَّرُوا قَولَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ».

قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ رواه الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ، قُولُوا لِكُلِّ عَبدٍ مَظْلُومٍ مَكْلُومٍ مَجْرُوحِ الفُؤَادِ: إِيَّاكَ أن تَظُنَّ أنَّ اللهَ تعالى قَد أَهمَلَ الظَّالمَ، أو أنَّ اللهَ تعالى نَسِيَ الظَّالِمَ، فَرَبُّنَا عزَّ وجلَّ لَا يَضِلُّ وَلَا يَنْسَى، بَل من سُنَّتِهِ في خَلْقِهِ أنَّهُ يُمْهِلَ أَهلَ الظُّلْمِ والطُّغيَانِ، حَتَّى إذا أَخَذَهُم لَم يُفْلِتْهُم.

يَا عِبَادَ اللهِ، تَدَبَّرُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾. يَعنِي: لُعِنَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ؛ أَينَ هؤلاءِ الظَّالِمُونَ؟

يَا أَيُّهَا العَبدُ المَظْلُومُ، تَدَبَّرْ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، هؤلاءِ الذينَ فُتِنُوا في دِينِهِم، هؤلاءِ الذينَ أَحرَقُوا النِّسَاءَ مَعَ أَطفَالِهِم في خَنَادِقِ النَّارِ، حَتَّى تَأتِيَ المَرأَةُ ومَعَهَا طِفلُهَا الرَّضِيعُ تَحْمِلُهُ، حَتَّى إذا وَقَعَت في شَفِيرِ الأُخدُودِ والنَّارُ تَضطَرِمُ فِيهَا تَعَكعَكَتْ، لا خَوفَاً من النَّارِ، ولكن رَحمَةً بالطِّفْلِ، فَيُنطِقُ اللهُ تعالى الطِّفْلَ الرَّضِيعَ، لِيَقُولَ لأُمِّهِ مُؤَيِّدَاً مُثَبِّتَاً مُصَبِّرَاً: يَا أُمَّهُ، اِصْبِرِي فَإِنَّكِ على الحَقِّ؛ فَتَتَقَحَّمُ المَرأَةُ والطِّفْلُ الرَّضِيعُ النَّارَ.

أَينَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ؟

يَا عِبَادَ اللهِ، إذا قَرَأنَا سُورَةَ البُرُوجِ فَإِنَّا نَجِدُ الآيَاتِ لَمْ تَذْكُرْ عُقُوبَةً دُنيَوِيَّةً حَلَّتْ بِأَصْحَابِ الأُخْدُودِ، لَمْ تَذْكُرْ أنَّ الأَرضَ خُسِفَتْ بِهِم، ولا أنَّ قَارِعَةً من السَّمَاءِ نَزَلَتْ عَلَيهِم، إلا قَولَ اللهَ عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، كُونُوا على يَقِينٍ بأنَّ مَا يَجْرِي في الكَونِ لا يَجْرِي في غَفْلَةٍ من اللهِ تعالى ـ حَاشَاهُ تَبَارَكَ وتعالى ـ ولا في سَهْوٍ من اللهِ تعالى ﴿واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾.

كُونُوا على يَقِينٍ بأنَّ مَا يَجْرِي في الكَونِ إِنَّمَا يَجْرِي في مُلْكِهِ، فَهُوَ لَيسَ بَعِيداً عن سَطْوَتِهِ، ولَيسَ بَعِيدَاً عن قُدْرَتِهِ ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا باللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. الكُلُّ في مُلْكِهِ ﴿للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ والكُلُّ تَحتَ قُدْرَتِهِ ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.

كُونُوا على يَقِينٍ بأنَّ مَا يَجْرِي في الكَونِ إِنَّمَا يَجْرِي بِعِلْمِهِ، وتَحتَ مُرَاقَبَتِهِ ﴿واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾. ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، قَد يَقُولُ قَائِلٌ: إذا كَانَ اللهُ على كُلِّ شَيءٍ شَهِيدَاً، وبِأَنَّ مَا يَجْرِي لَيسَ بَعِيدَاً عن سَطْوَتِهِ وقُدْرَتِهِ، ولَيسَ غَائِبَاً عن عِلْمِهِ، فَأَينَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ؟

الجَوَابُ يَأتِي: بِأَنَّ الجَمِيعَ في قَبْضَةِ اللهِ تعالى، ولَن يَفلِتَ أَحَدٌ من قَبْضَتِهِ، فَلِلَّهِ الآخِرَةُ والأُولَى، فالأُولَى دَارُ عَمَلٍ، والآخِرَةُ دَارُ جَزَاءٍ، فَمَا يَجْرِي في الأُولَى مَا هوَ إلا النَّذْرُ اليَسِيرُ الزَّهِيدُ، أمَّا مَا سَيَجْرِي في الآخِرَةِ فَهُوَ الجَزَاءُ الأَوفَى، والخَاتِمَةُ الحَقِيقِيَّةُ، والجَزَاءُ الحَقِيقِيُّ.

الجَزَاءُ من جِنْسِ العَمَلِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، تَدَبَّرُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾.

أَصْحَابُ الأُخْدُودِ أَحرَقُوا المُؤمِنِينَ في الأُخْدُودِ، وهُم سَيُحْرَقُونَ، ولكن، أَينَ؟ في جَهَنَّمَ، أَحرَقُوا في الدُّنيَا، فَسَيُحْرَقُونَ في الآخِرَةِ.

ومَا أَعظَمَ الفَرقَ بَينَ حَرِيقٍ وحَرِيقٍ.

أولاً: حَرِيقُ الدُّنيَا يُوقِدُهُ بَشَرٌ، أمَّا حَرِيقُ الآخِرَةِ يُوقِدُهُ رَبُّ البَشَرِ.

ثانياً: حَرِيقُ الدُّنيَا يَنتَهِي بِلَحَظَاتٍ، أمَّا حَرِيقُ الآخِرَةِ فَيَمتَدُّ إلى آمَادٍ لا يَعْلَمُهَا إلا اللهُ تعالى.

ثالثاً: حَرِيقُ الدُّنيَا عَاقِبَتُهُ رِضْوَانٌ من اللهِ تعالى، أمَّا حَرِيقُ الآخِرَةِ فَمَعَهُ غَضَبُ اللهِ تعالى وسَخَطُهُ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، لقد اختَلَّ المِيزَانُ الحَقِيقِيُّ للرِّبْحِ والخَسَارَةِ في هذهِ الأَزمَةِ عِندَ كَثِيرٍ من النَّاسِ، فَظَنَّ البَعْضُ بِأَنَّ الظُّلْمَ هوَ رِبْحٌ، وظَنَّ بِأَنَّ الظَّالِمَ رَابِحٌ، والمَظْلُومَ خَاسِرٌ.

يَا عِبَادَ اللهِ، هذا الظَّنُّ خَاطِئٌ، واقرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ قَولَ اللهِ تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾. أمَّا المَقتُولُ فَهُوَ من الرَّابِحِينَ.

يَا عِبَادَ اللهِ، من قَتَلَ بِغَيرِ حَقٍّ فَهُوَ ظَالِمٌ خَاسِرٌ، والمَقتُولُ هوَ المَظْلُومُ الرَّابِحُ، من أَخَذَ أَموَالَ النَّاسِ بِغَيرِ حَقٍّ فَهُوَ ظَالِمٌ خَاسِرٌ، والمَأْخُوذُ مِنهُ هوَ المَظْلُومُ الرَّابِحُ، والمُرَوِّعُ للآخَرِينَ ظَالِمٌ خَاسِرٌ، والمُرَوَّعُ مَظْلُومٌ رَابِحٌ.

يَا عِبَادَ اللهِ، مَن يَعْتَقِدُ أنَّ أَصْحَابَ الأُخْدُودِ رَابِحُونَ؟

يَا عِبَادَ اللهِ، خَسَارَةُ الدُّنيَا لا قِيمَةَ لَهَا أَمَامَ رِبْحِ الآخِرَةِ، فَكُونُوا حَرِيصِينَ على آخِرَتِكُم.

اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لذلكَ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 1/جمادى الأولى/1435هـ، الموافق: 20/شباط / 2015م