425ـ خطبة الجمعة: وافترقوا في الثمرة

 

 425ـ خطبة الجمعة: وافترقوا في الثمرة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، المُؤمِنُ العَاقِلُ الحَصِيفُ يَجِبُ عَلَيهِ حَتْمَاً أن يُوقِنَ أنَّ الأَشيَاءَ قد فُرِغَ مِنهَا، وأنَّ اللهَ سُبحَانَهُ وتعالى قَدَّرَ صَغِيرَهَا وكَبِيرَهَا، وعَلِمَ مَا كَانَ ومَا سَيَكُونُ، وأنَّهُ لَو كَانَ كَيفَ يَكُونُ ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾.

وروى أبو داود عَنْ أَبِي حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ.

فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ.

قَالَ: رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟

قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ».

يَا بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي».

يَا عِبَادَ اللهِ، المَقَادِيرُ كَائِنَةٌ لا مَحَالَةَ، ومَا لا يَكُونُ فلا حِيلَةَ للخَلْقِ في تَكْوِينِهِ، ومَا تَعِبَ الخَلْقُ إلا من قِلَّةِ الرِّضَا عن اللهِ تعالى، وبِسَبَبِ قِلَّةِ المَعْرِفَةِ باللهِ تعالى.

﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ، لَمَّا جِيءَ بِسَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ إلى الحَجَّاجِ لِيَقتُلَهُ، بَكَى رَجُلٌ.

فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: مَا يُبْكِيكَ؟

قَالَ: لِمَا أَصَابَكَ.

قَالَ سَعِيدٌ: فَلَا تَبْكِ إِذَاً، لَقَد كَانَ فِي عِلْمِ اللهِ أَنْ يَكُونَ هذا الأَمْرُ، ثُمَّ تَلَا: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، مَا أَصَابَكُم مِمَّا يَسُرُّكُم فَهُوَ نِعمَةٌ من اللهِ تعالى بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ، ومَا أَصَابَكُم مِمَّا يَسُوؤُكُم فَهُوَ نِعمَةٌ من اللهِ تعالى، ولَكِنَّهَا نِعمَةٌ خَفِيَّةٌ جَاءَتْ بِثَوبِ مُصِيبَةٍ، فَإِمَّا أن يُكَفِّرَ خَطَايَاكُم بذلكَ، ويُثِيبَكُم بالصَّبْرِ عَلَيهَا، وإِمَّا أن يَكُونَ للهِ عزَّ وجلَّ في ذلكَ حِكْمَةٌ لا يَعْلَمُهَا إلا اللهُ تعالى ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ واللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

وصَدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «عَجَباً لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

اِستَوَوْا في المُصِيبَةِ، وافتَرَقُوا في الثَّمَرَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الكُلُّ يَعِيشُ هذهِ الأَزمَةَ والشِّدَّةَ الطَّائِعُ والعَاصِي، البَرُّ والفَاجِرُ، المُؤمِنُ والكَافِرُ، الكُلُّ اِستَوَوا في المُصِيبَةِ، ولَكِنَّهُمُ افتَرَقُوا في الثَّمَرَةِ والعَاقِبَةِ، ولا يُسَوِّي بَينَهُمَا إلا أَحمَقٌ أَرعَنٌ، كَمَا قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: إِنَّكُم تَرَونَ الكَافِرَ من أَصَحِّ النَّاسِ جِسْمِاً وَأَمْرَضِهِمْ قَلْبَاً، وَتَلقَونَ المُؤمِنَ من أَصَحِّ النَّاسِ قَلْبَاً وَأَمْرَضِهِمْ جِسْمَاً، وَايْمُ اللهِ، لَو مَرِضَتْ قُلُوبُكُم وَصَحَّتْ أَجْسَامُكُم لَكُنتُم أَهوَنَ على اللهِ من الجُعْلانِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، دَخَلَ سَلمَانُ الفَارِسِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ على مَرِيضٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ: أَبْشِرْ، فَإِنَّ مَرَضَ المُؤمِنِ يَجْعَلُهُ اللهُ لَهُ كَفَّارَةً وَمُستَعتِبَاً، وَإِنَّ مَرَضَ الفَاجِرِ كالبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ، ثُمَّ أَرْسَلُوهُ، فَلَا يَدْرِي لِمَ عُقِلَ وَلِمَ أُرْسِلَ. رواه الإمام البخاري في الأَدَبِ المُفرَدِ.

الصَّبْرُ هوالعَاصِمُ من الجَزَعِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، إنَّ الهُمُومَ والأَحزَانَ والأَكدَارَ إذا اسْتَحْكَمَت وتَعَقَّدَتْ حِبَالُهَا، واستَحكَمَتْ حَلَقَاتُهَا، وطَالَ لَيلُهَا، فالصَّبْرُ وَحْدَهُ هوَ العَاصِمُ بِإِذْنِ اللهِ تعالى من الجَزَعِ عِندَ الرِّيَبِ، وهوَ الهِدَايَةُ الوَاقِيَةُ من القُنُوطِ عِندَ الكُرُوبِ.

المُؤمِنُ لا يَفزَعُ من غَيمَةٍ تَظْهَرُ في الأُفُقِ، ولَو تَبِعَتْهَا أُخرَى وثَالِثَةٌ ورَابِعَةٌ، مَا دَامَ رَبُّهُ لا يُعجِزُهُ شَيءٌ في الأَرضِ ولا في السَّمَاءِ، مَا دَامَ رَبُّهُ يَقُولُ للشَّيءِ كُنْ فَيَكُونُ، مَا دَامَ رَبُّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيماً.

يَا عِبَادَ اللهِ، اِسْتَحْضِرُوا دَائِمَاً وأَبَدَاً عِندَ الشَّدَائِدِ والصِّعَابِ قَولَ اللهِ تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الأَيَّامُ دُوَلٌ، يَومٌ لَنَا، ويَومٌ عَلَينَا، يَومٌ يَسُرُّنَا، ويَومٌ يَسُوؤُنَا، والحَيَاةُ لا تَتَوَقَّفُ، وكذلكَ الأُمَّةُ تَعْتَرِيهَا الأَحدَاثُ بَينَ الشِّدَّةِ والرَّخَاءِ، والعُسْرِ واليُسْرِ ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾.

سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ مَاضِيَةٌ في خَلْقِهِ، يَكْشِفُ فِيهَا مَعَادِنَ النُّفُوسِ، وطَبَائِعَ القُلُوبِ، ويُمَيِّزُ فِيهَا بَينَ المُؤمِنِ والكَافِرِ، والصَّادِقِ والكَاذِبِ، والمُخلِصِ والمُنَافِقِ، والمُحِبِّ والمُدَّعِي، ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً، ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً.

يَا عِبَادَ اللهِ، لَو عَلِمَ كُلُّ وَاحِدٍ فِينَا أنَّ المَقَادِيرَ بِيَدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّ كُلَّ مَا يَحْدُثُ في الكَونِ قَد سَبَقَ في عِلْمِ اللهِ تَقْدِيرُهُ، ومَحْسُوبٌ حِسَابُهُ قَبلَ خَلْقِ الأَرضِ، بَل قَبلَ خَلْقِ الإِنسَانِ، لَو عَلِمَ ذلكَ وآمَنَ بِهِ إِيمَانَاً صَادِقَاً لَمَا اشْتَدَّ بِهِ الحُزْنُ اشْتِدَادَاً يُخْرِجُهُ عن اسْتِوَائِهِ، ولَمَا أَلَمَّ بِهِ الأَسَى إلى حَدِّ الجَزَعِ، ولَعَلِمَ أنَّ مَا سَبَقِ بِهِ العِلْمُ وَاقِعٌ لا مَحَالَةَ، رَضِيَ الإِنسَانُ أَم لَم يَرضَ، لَو عَلِمَ العَبدُ هذا لَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ، وامتَلأَ بِقَضَاءِ اللهِ رِضَاً وسَكِينَةً، وصَدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ» رواه الحاكم عَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

اللَّهُمَّ اجْعَلنَا من الشَّاكِرِينَ عِندَ الرَّخَاءِ، ومن الصَّابِرِينَ عِندَ البَلاءِ، ومن الرَّاضِينَ بِمُرِّ القَضَاءِ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 8/جمادى الأولى/1435هـ، الموافق: 27/شباط / 2015م