11ـ مع آل البيت: الزهراء ومحنة الحصار (1)

 

 مع آل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

11ـ الزهراء ومحنة الحصار (1)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ المِحَنَ التي تَمُرُّ على المُسلِمِينَ اليَومَ شَدِيدَةٌ وقَاسِيَةٌ، وبَلاءٌ عَظِيمٌ يَشْمَلُ القَتْلَ والتَّشْرِيدَ وانتِهَاكَ الحُرُمَاتِ، مِمَّا يُدْمِي القَلبَ، ويُدْمِعُ العَينَ، ويَملَأُ النُّفُوسَ أَلَمَاً، ومِمَّا يَزِيدُ من لَأْوَائِهَا، قِلَّةُ النَّاصِرِ من العِبَادِ، وهَوْلُ المُصِيبَةِ.

أيُّها الإخوة الكرام: في أَوقَاتِ المِحَنِ والشَّدَائِدِ تَحتَاجُ الأُمَّةُ إلى حَدِيثٍ يَبْعَثُ الأَمَلَ فِيهَا، ويَشْحَذُ هِمَمَهَا، ويَمْسَحُ مَرَارَةَ الأَحْدَاثِ، ويَجعَلُهَا وَاثِقَةً بِوَعْدِ رَبِّهَا الذي لا يُخْلَفُ، في أَيَّامِ الفِتَنِ والمِحَنِ جَاءَ خَبَّابُ ابنُ الأَرَتِّ يَشْكُو إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَلَمَ الفِتَنِ، وشِدَّةَ المِحَنِ.

روى الإمام البخاري عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟

قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ، يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، واللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ، أَو الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ البُكَاءَ والنُّوَاحَ لا يُفِيدُ قَضِيَّةً، ولا يُصْلِحُ حَالاً، بَل الأَمَلُ والصَّبْرُ والثَّبَاتُ على الحَقِّ هوَ الذي يُفِيدُ ويُصْلِحُ، وهذا لا يَكُونُ إلا بالإِيمَانِ الحَقِّ، ولا يَكُونُ إلا لِمَن ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ.

الزَّهرَاءُ ومِحْنَةُ الحِصَارِ:

أيُّها الإخوة الكرام: تَعَالَوا لِنَتَعَلَّمْ دُرُوسَاً في الصَّبْرِ من آلِ بَيتِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وخَاصَّةً من أُمِّنَا السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها.

لقد عَايَشَتِ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنها مِحْنَةَ الحِصَارِ التي اخْتَبَرَ اللهُ تعالى بِهَا عِبَادَهُ المُؤمِنِينَ، وذلكَ عِندَمَا فَشَا الإِسلامُ في القَبَائِلِ، وهَاجَرَ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى الحَبَشَةِ، اتَّفَقَتْ قُرَيشٌ على كِتَابَةِ عَقْدٍ بَينَهُم.

قَالَ ابنُ إِسحَاقَ: فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَزَلُوا بَلَداً أَصَابُوا بِهِ أَمْناً وَقَرَاراً، وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَنَعَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ، فَكَانَ هُوَ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَجَعَلَ الْإِسْلَامُ يَفْشُو فِي الْقَبَائِلِ، اجْتَمَعُوا وَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا كِتَاباً يَتَعَاقَدُونَ فِيهِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ عَلَى أَنْ لَا يُنْكِحُوا إلَيْهِمْ وَلَا يُنْكَحُوهُمْ وَلَا يَبِيعُوهُمْ شَيْئاً، وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ ثُمَّ تَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ عَلَّقُوا الصَّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ تَوْكِيداً عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ قَد لَقِيَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ، مَعَهُ غُلَامٌ يَحْمِلُ قَمْحاً يُرِيدُ بِهِ عَمَّتَهُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ، وَهِيَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ فِي الشِّعْبِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ وَقَالَ: أَتَذْهَبُ بِالطَّعَامِ إلَى بَنِي هَاشِمٍ؟ واللهِ لَا تَبْرَحُ أَنْتَ وَطَعَامُكَ حَتَّى أَفْضَحَكَ بِمَكَّةَ.

فَجَاءَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ، فَقَالَ: مَا لَك وَلَهُ؟

فَقَالَ: يَحْمِلُ الطَّعَامَ إلَى بَنِي هَاشِمٍ.

فَقَالَ لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: طَعَامٌ كَانَ لِعَمَّتِهِ عِنْدَهُ بَعَثَتْ إلَيْهِ فِيهِ، أَفَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا، خَلِّ سَبِيلَ الرَّجُلِ.

فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ حَتَّى نَالَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَخَذَ لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ لَحْيَ بَعِيرٍ فَضَرَبَهُ بِهِ فَشَجَّهُ وَوَطِئَهُ وَطْئَاً شَدِيداً، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَرِيبٌ يَرَى ذَلِكَ وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِهِمْ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَسِرَّاً وَجَهَاراً، مُبَادِيَاً بِأَمْرِ اللهِ لَا يَتَّقِي فِيهِ أَحَداً مِن النَّاسِ.

مَا أَصَابَ المُؤمِنِينَ في الشِّعْبِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد تَجَرَّعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم مَرَارَةَ الحِصَارِ، وتَقَلَّبُوا في لَظَى هذهِ المُؤَامَرَةِ الخَبِيثَةِ عِندَمَا أُطبِقَ عَلَيهِم بِسِيَاجِ الظُّلْمِ، فَصَبَرُوا حَتَّى أَتَاهُم نَصْرُ اللهِ، كَانَ الصَّبْرُ على مِثْلِ هذا البَلاءِ نِعْمَ الزَّادُ الذي يَتَنَاسَبُ مَعَ وَعْدِ اللهِ تعالى لَهُم بِجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأَرضُ، ويَتَنَاسَبُ مَعَ تَربِيَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِصَحَابَتِهِ الكِرَامِ بِأنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الضِّيقِ، وأنَّ البَلاءَ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ، وأنَّ أَهلَ الإِيمَانِ لا بُدَّ أن يَتَعَرَّضُوا للفِتَنِ تَمْحِيصَاً وإِعْدَادَاً، قال تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ: وَذَكَرَ مَا أَصَابَ المُؤمِنِينَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الشِّعْبِ من ضِيقِ الحِصَارِ لا يُبَايَعُونَ ولا يُنَاكَحُونَ، وفي الصَّحِيحِ أَنَّهُم جَهِدُوا حَتَّى كَانُوا يَأْكُلُونَ الخَبطَ وَوَرَقَ السَّمَرِ، حَتَّى إنَّ أَحَدَهُم لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ، وكَانَ فِيهِم سَعدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ.

رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَقَد جِعتُ، حَتَّى إِنِّي وَطِئْتُ ذَاتَ لَيلَةٍ على شَيءٍ رَطِبٍ فَوَضَعْتُهُ في فَمِي وَبَلَعْتُهُ، وَمَا أَدْرِي مَا هُوَ إلى الآنِ.

وفي رِوَايَةٍ أَنَّ سَعدَاً قَالَ: خَرَجتُ ذَاتَ لَيلَةٍ لِأَبُولَ، فَسَمِعتُ قَعقَعَةً تَحتَ البَولِ، فإذا قِطعَةٌ من جِلْدِ بَعِيرٍ يَابِسَةٌ، فَأَخَذتُهَا وَغَسَلتُهَا، ثمَّ أَحرَقتُهَا، ثمَّ رَضَضْتُهَا، وَسَفَفْتُهَا بالمَاءِ فَقِويتُ بها ثَلاثَاً، وكانوا إذا قَدِمَتِ العِيرُ مَكَّةَ يَأتِي أَحَدُهُمُ السُّوقَ لِيَشْتَرِيَ شَيئَاً من الطَّعَامِ لِعِيَالِهِ، فَيَقُومُ أَبُو لَهَبٍ عَدُوُّ اللهِ فَيَقُولُ: يا مَعشَرَ التُّجَّارِ، غَالُوا على أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، حَتَّى لا يُدْرِكُوا مَعَكُم شَيئَاً، فَقَد عَلِمتُم مَا لِي وَوَفَاءَ ذِمَّتِي، فَأَنَا ضَامِنٌ أن لا خَسَارَ عَلَيكُم، فَيَزِيدُونَ عَلَيهِم في السِّلعَةِ قِيمَتَهَا أَضْعَافَاً، حَتَّى يَرجِعَ إلى أَطْفَالِهِ وَهُم يَتَضَاغَونَ من الجُوعِ وَلَيسَ في يَدَيهِ شَيءٌ يُطْعِمُهُم بِهِ، وَيَغْدُو التُّجَّارُ على أَبِي لَهَبٍ، فَيُرْبِحُهُم فِيمَا اشتَرَوْا من الطَّعَامِ واللِّبَاسِ، حَتَّى جَهِدَ المُؤمِنُونَ وَمَن مَعَهُم جُوعَاً وَعُرْيَاً.

الزَّهرَاءُ وأُمُّهَا رَضِيَ اللهُ عَنهُما:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ في هذا الحِصَارِ المَرِيرِ السَّيِّدَةُ الجَلِيلَةُ خَدِيجَةُ الكُبْرَى التي تَرَبَّتْ في مَنَابِتِ العِزِّ والرَّفَاهِيَةِ مَعَ زَوجِهَا الحَبِيبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ومَعَهُمَا السَّيِّدَةُ الزَّهرَاءُ وأُمُّ كُلثُومٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

لقد عَاشَتِ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ الزَّهرَاءُ تِلكَ السَّنَوَاتِ الثَّلاثِ دَاخِلَ الشِّعْبِ، وهيَ تَخْطُو نَحْوَ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ من عُمُرِهَا، وقَد نَضِجَتْ نُضْجَاً فِكْرِيَّاً عَظِيمَاً، وكَانَتْ تُشَاهِدُ بَعْضَ بَنِي هَاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ، رَغمَ الجُوعِ والحِصَارِ والعَذَابِ، يُفَضِّلُونَ المَوتَ، ويَرفُضُونَ أن يَخرُجُوا إلى قُرَيشٍ ويَتَمَتَّعُوا مَعَهَا في نَعِيمِهَا الزَّائِلِ.

وكَانَتْ رَضِيَ اللهُ عَنها تُشَاهِدُ أُمَّهَا خَدِيجَةَ الكُبْرَى كَيفَ تَتَحَمَّلُ آلامَ الحَيَاةِ وشَظَفَ العَيشِ، وهيَ صَابِرَةٌ مُحْتَسِبَةٌ، صَامِدَةٌ بِجَوَارِ زَوجِهَا المُصطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، تَحْرُسُهُ وتَرْعَاهُ لَيلاً ونَهَارَاً، تُرَاقِبُهُ مَخَافَةَ أن تَغدِرَ بِهِ قُرَيشٌ، أو يُصِيبَهُ أيُّ مَكْرُوهٍ.

لا بَأْسَ عَلَيكِ يَا أُمَّاهُ:

أيُّها الإخوة الكرام: وفي هذا الحِصَارِ دَارَ حَدِيثٌ بَينَ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها وابنَتَيهَا أُمِّ كُلثُومٍ، وفَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، حَولَ فَضْلِهَا على المُؤمِنِينَ، واسْتَعْبَرَتْ خَدِيجَةُ وبَكَتْ، وهَالَ البِنْتَينِ مَا تَرَيَانِ من دُمُوعِ أُمِّهِمَا صَاحِبَةِ القَلبِ القَوِيِّ، والهِمَّةِ العَالِيَةِ.

وسَأَلَتْهَا أُمُّ كُلثُومٍ: لماذا تَبْكِينَ يَا أُمَّاهُ؟

فَقَالَتْ: لقد نَالَتِ السِّنُونَ  مِنِّي يَا بُنَيَّتِي، ولا بُدَّ للأَجَلِ المَحْتُومِ أن يَأْتِيَ.

فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: لا بَأْسَ عَلَيكِ يَا أُمَّاهُ.

فَقَالَتْ: إي وَرَبِّي، لا بَأْسَ عَلَيَّ يَا بُنَيَّتِي، مَا من امرَأَةٍ في قُرَيشٍ حَظِيَتْ بِمَا حَظِيتُ بِهِ من نِعمَةٍ، بَل مَا من امرأَةٍ في هذهِ الدُّنيَا نَالَتْ مِثْلَ الذي نِلتُ من عِزٍّ.

حَسْبِي من دُنيَايَ أَنَّنِي زَوجُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وحَسْبِي من آخِرَتِي أَنَّنِي المُؤمِنَةُ الأُولَى بَينَ المُسلِمَاتِ.

ثمَّ أُسِيلَتْ عَينُهَا، وتَوَجَّهَتْ إلى اللهِ تعالى قَائِلَةً:

اللَّهُمَّ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي لا أَكْرَهُ لِقَاءَكَ، ولَكِنْ أَطْمَعُ في مَزِيدٍ من الجِهَادِ، لِأَكُونَ أَهْلاً لِمَا أَنعَمْتَ عَلَيَّ.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: كُونُوا على يَقِينٍ بأَنَّ قُلُوبَ العِبَادِ بَينَ أُصْبُعَينِ من أَصَابِعِ الرَّحمَنِ، يُقَلِّبُهَا كَيفَ يَشَاءُ، فَسَلُوا اللهَ تعالى الثَّبَاتَ أَيَّامَ الفِتَنِ والمِحَنِ، وتَذَكَّرُوا قَولَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِن الدُّنْيَا» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وتَذَكَّرُوا قَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

لِنَتَعَلَّمِ الثَّبَاتِ أَيَّامَ المِحَنِ والشَّدَائِدِ من آلِ بَيتِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولنَتَعَلَّمْ مِنهُم كَيفَ يَكُونُ الصَّبْرُ على شَظَفِ العَيْشِ.

رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 14/جمادى الأولى/1435هـ، الموافق: 5/آذار / 2015م