12ـ مع الصحابة وآل البيت: الزهراء ومحنة الحصار (2)

 

 مع الصحابة و آل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

12ـ الزهراء ومحنة الحصار (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: مَا يُصِيبُ المُؤمِنَ في الحَيَاةِ الدُّنيَا من المَصَائِبِ والمِحَنِ والشَّدَائِدِ والقَسْوَةِ والأَذَى مَا هوَ إلا كالدَّوَاءِ الذي يُسْتَخْرَجُ بِهِ الدَّاءُ، ومَا هوَ إلا الخَيرُ في حَقِّهِ، روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ! إِنَّ اللهَ لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرَاً لَهُ».

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ مَا يُصِيبُ المُؤمِنَ والأُمَّةَ المُؤمِنَةَ في هذهِ الدَّارِ الفَانِيَةِ من إِدَالَةِ عَدُوِّهَا لَهَا، وغَلَبَتِهَا لَهَا، وأَذَاهَا لَهَا في بَعْضِ الأَحيَانِ أَمْرٌ لازِمٌ لا بُدَّ مِنهُ، فَهُوَ كالحَرِّ الشَّدِيدِ والبَردِ الشَّدِيدِ، فهذا أَمْرٌ لازِمٌ للإِنسَانِ، وفي ذلكَ حِكْمَةُ أَحْكَمِ الحَاكِمِينَ.

لَو تَجَرَّدَ الخَيرُ في هذا العَالَمِ عن الشَّرِّ، والنَّفْعُ عن الضُّرِّ، واللَّذَّةُ عن الأَلَمِ، لَكَانَ ذلكَ عَالَمَاً غَيرَ هذا، ونَشْأَةً أُخرَى غَيرَ هذهِ النَّشْأَةِ، وكَانَت تَفُوتُ الحِكْمَةُ التي مُزِجَ لأَجلِهَا بَينَ الخَيرِ والشَّرِّ، والنَّفْعِ والضُّرِّ، واللَّذَّةِ والأَلَمِ، ولكن شَاءَ اللهُ تعالى أن يَمْزِجَ بَينَ الخَيرِ والشَّرِّ، والنَّفْعِ والضُّرِّ، واللَّذَّةِ والأَلَمِ، لِيَمِيزَ الخَبِيثَ من الطَّيِّبِ، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا باللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾. وقال تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعَاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.

الزَّهرَاءُ ومِحْنَةُ الحِصَارِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد شَاءَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ أن تَدْخُلَ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ آلِ البَيتِ الحِصَارَ في الشِّعْبِ لِمُدَّةِ ثَلاثِ سَنَوَاتٍ، مَعَ أَبِيهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ومَعَ أُمِّهَا وأُخْتِهَا أُمِّ كُلثُومٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُنَّ، لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللهُ تَبَارَكَ تعالى، بل لِحِكَمٍ لا يَعْلَمُ تَفَاصِيلَهَا إلا اللهُ تعالى.

لقد أَثَّرَ هذا الحِصَارُ عَلَيهَا وعلى أُخْتِهَا وأُمِّهَا رَضِيَ اللهُ عَنهُنَّ، حَتَّى أَصْبَحْنَ هَزِيلاتِ الجِسْمِ، نَحِيلاتِ العُودِ، مُصَفَّرَاتِ الوُجُوهِ،  مِثلُهُنَّ مِثْلُ بَاقِي المُسْلِمِينَ، لأنَّ ذاكَ الحِصَارَ، وتِلكَ المِحْنَةَ، مَا مَيَّزَتْ بَينَ أَحَدٍ، ولكنَّ الجَمِيعَ كَانُوا يُوَاجِهُونَ هذهِ المِحْنَةَ بالصَّبْرِ والمُصَابَرَةِ، وذلكَ امْتِثَالاً لأَمْرِ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

الفَرَجُ مَعَ الكَرْبِ:

أيُّها الإخوة الكرام: يَا مَن تَعِيشُونَ هذهِ الأَزمَةَ التي طَالَ أَمَدُهَا، تَذَكَّرُوا الحِصَارَ الذي ضُرِبَ على المُسْلِمِينَ في شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ، ودَامَ ثَلاثَ سَنَوَاتٍ، واعْلَمُوا بَعدَ ذلكَ بِأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، والنَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، واسْمَعُوا وَصِيَّةَ خَلِيلِكُم وَحَبِيبِكُم سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كما روى الإمام أحمد والبيهقي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا غُلَامُ ـ أَوْ: يَا غُلَيِّمُ ـ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ؟».

فَقُلْتُ: بَلَى.

فَقَالَ: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعَاً أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرَاً كَثِيرَاً، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَاً».

أيُّها الإخوة الكرام: لقد عَلَّمَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَالِهِ وحَالِهِ وسِيرَتِهِ وآلُ بَيتِهِ الأَطْهَارُ بِأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ اليُسْرَ مَعَ العُسْرِ، ولكنَّ الأَمْرَ يَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ ومُصَابَرَةٍ، ولا يَحْتَاجُ إلى عَجَلَةٍ، لأنَّ الأُمُورَ مُقَدَّرَةٌ بِأَقْدَارِهَا، فالحِصَارُ في الشِّعْبِ مَا دَامَ، لأنَّهُ من المُحَالِ دَوَامُ الحَالِ، وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ واللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾.

نَقْضُ الصَّحِيفَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لَنْ يَدُومَ حَالٌ على حَالِهِ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا، لقد مَرَّ على حِصَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ومَن مَعَهُ ثَلاثُ سَنَوَاتٍ، ويَدْخُلُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها، وعلى السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ، والسَّيِّدَةِ أُمِّ كُلثُومَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا، لِيَحْمِلَ لَهُنَّ بِشَارَةَ الفَرَجِ، بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى أَرسَلَ على الصَّحِيفَةِ الْأَرَضَةَ ـ هِيَ دُوَيْبَةٌ صَغِيرَةٌ تَأْكُلُ الْخَشَبَ وَغَيْرَهُ ـ فَأَكَلَتْ جَمِيعَ مَا فِيهَا مِنْ جَوْرٍ وَقَطِيعَةٍ وَظُلْمٍ إلا ذِكْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وأَخبَرَ بذلكَ عَمَّهُ.

أيُّها الإخوة الكرام: إذا أَرَادَ اللهُ تعالى أَمْرَاً هَيَّأَ أَسبَابَهُ، فَعِنْدَمَا أَرَادَ اللهُ عزَّ وجلَّ إِنْهَاءَ الحِصَارِ سَخَّرَ المُشْرِكِينَ لِنَقْضِ تِلكَ الصَّحِيفَةِ الظَّالِمَةِ، وكَانُوا من قَبلُ يَبْذُلُونَ كُلَّ جُهْدِهِم لإحْكَامِ الحِصَارِ، فقد مَضَى هِشَامُ ابنُ عَمرٍو لَيلاً إلى زُهَيرِ  بنِ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ لَهُ: يَا زُهَيرُ، أَرَضِيتَ أنَّ تَأْكُلَ الطَّعَامَ، وتَلبَسَ الثِّيَابَ، وتَنْكِحَ النِّسَاءَ، وأَخوَالُكَ حَيثُ عَلِمْتَ؟

أمَا أَنِّي أَحْلِفُ باللهِ لَو كَانَ أَخْوَالُ أَبِي الحَكَمِ بنِ هِشَامٍ، ثمَّ دَعَوْتَهُ إلى مِثْلِ مَا دَعَاكَ إِلَيهِ من مُقَاطَعَتِهِم، مَا أَجَابَكَ إِلَيهِ أَبَدَاً.

فَقَالَ: وَيْحَكَ، فَمَا أَصْنَعُ وَأَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ؟ أَمَا واللهِ لَو كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ لَقُمْتُ في نَقْضِهَا.

قَالَ: قَد وَجَدتَ رَجُلاً.

قَالَ: فَمَن هُوَ؟

قَالَ: أَنَا.

قَالَ لَهُ زُهَيرُ: اِبْغِنَا رَجُلاً ثَالِثَاً.

فَذَهَبَ إلى المُطْعِمِ بنِ عَدِيِّ، فَذَكَّرَهُ أَرْحَامَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَامَهُ على مُوَافَقَتِهِ لَقُرَيشٍ على هذا الظُّلْمِ.

فَقَالَ المُطْعِمُ: وَيْحَكَ، مَاذَا أَصْنَعُ؟ إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ.

قَالَ: قَد وَجَدتَ ثَانِيَاً.

قَالَ: مَن هُوَ؟

قَالَ: أَنَا.

قَالَ: اِبْغِنَا ثَالِثَاً.

قَالَ: قَد فَعَلتُ.

قَالَ: مَن هُوَ؟

قَالَ: زُهَيرُ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ.

قَالَ: اِبْغِنَا رَابِعَاً.

فَذَهَب إلى أَبِي البُخْتُرِيِّ بنِ هِشَامٍ، فَقَالَ لَهُ نَحْوَاً مِمَّا قَالَ للمُطْعِمِ.

فَقَالَ: وَهَلْ من أَحَدٍ يُعِينُ على هذا؟

قَالَ: نَعَم.

قَالَ: مَن هُوَ؟

قَالَ: زُهَيرُ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ ، والمُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ، وَأَنَا مَعَكَ.

قَالَ: اِبْغِنَا خَامِسَاً.

فَذَهَبَ إلى زمعَةَ بنِ الأَسوَدِ بن المُطَّلِبِ بن أسدٍ، فَكَلَّمَهُ وَذَكَرَ لَهُ قَرَابَتَهُم وَحَقَّهُم.

فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ على هذا الأَمْرِ الذي تَدْعُونِي إِلَيهِ من أَحَدٍ؟

قَالَ: نَعَم، ثمَّ سَمَّى لَهُ القَومَ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَ الحَجُونِ، وَتَعَاقَدُوا على القِيَامِ بِنَقْضِ الصَّحِيفَةِ.

وقَالَ زُهَيرٌ: أَنَا أَبْدَأُكُم فَأَكُونُ أَوَّلَ مَن يَتَكَلَّمُ.

فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوا إلى أَنْدِيَتِهِم، وَغَدَا زُهَيرٌ عَلَيهِ حُلَّةٌ، فَطَافَ بالبَيتِ سَبْعَاً، ثمَّ أَقْبَلَ على النَّاسِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَنَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَنَلْبَسُ الثِّيَابَ، وَبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى، لا يُبَاعُ ولا يُبْتَاعُ مِنهُم؟ واللهِ لا أَقْعُدُ حَتَّى تُشَقَّ هذهِ الصَّحِيفَةُ القَاطِعَةُ الظَّالِمَةُ.

قَالَ أَبُو جَهْلٍ ـ وَكَانَ في نَاحِيَةِ المَسْجِدِ: كَذَبتَ، واللهِ لا تُشَقُّ.

فَقَالَ زمعَةُ بنُ الأَسوَدِ: أَنتَ واللهِ أَكْذَبُ، مَا رَضِينَا كِتَابَتَهَا حَيثُ كُتِبَتْ.

قَالَ أَبُو البُختُرُيُّ: صَدَقَ زمعَةُ، لا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا، ولا نُقِرُّ بِهِ.

قَالَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ: صَدَقتُمَا، وَكَذَبَ مَن قَالَ غَيرَ ذلكَ، نَبْرَأُ إلى اللهِ مِنهَا وَمِمَّا كُتِبَ فِيهَا.

وَقَالَ هِشَامُ بنُ عَمرٍو نَحْوَاً من ذلكَ.

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هذا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيلٍ، وتُشُووِرَ فِيهِ بِغَيرِ هذا المَكَانِ.

وَأَبُو طَالِبٍ جَالِسٌ في نَاحِيَةِ المَسْجِدِ، إِنَّمَا جَاءَهُم لأنَّ اللهَ كَانَ قَد أَطْلَعَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَمْرِ الصَّحِيفَةِ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيهَا الأَرْضَةَ، فَأَكَلَتْ جَمِيعَ مَا فِيهَا من جَوْرٍ وَقَطِيعَةٍ وَظُلْمٍ إلا ذِكْرَ اللهِ عزَّ وجلَّ، فَأَخبَرَ بذلكَ عَمَّهُ، فَخَرَجَ إلى قُرَيشٍ فَأَخْبَرَهُم أنَّ ابنَ أَخِيهِ قَد قَالَ كذا وكذا، فإنْ كَانَ كَاذِبَاً خَلَّينَا بَينَكُم وَبَيْنَهُ، وإنْ كَانَ صَادِقَاً رَجَعْتُم عن قَطِيعَتِنَا وَظُلْمِنَا.

قَالُوا: قَد أَنْصَفْتَ.

وَبَعدَ أَن دَارَ الكَلَامُ بَينَ القَومِ وَبَينَ أَبِي جَهْلٍ، قَامَ المُطْعِمُ إِلَى الصَّحِيفَةِ لِيَشُقَّهَا، فَوَجَدَ الأَرْضَةَ قَد أَكَلَتهَا إِلَّا (بِاسْمِكَ الَّلهُم) ، وَمَا كَانَ فِيَها مِنِ اِسمِ اللهِ فَإِنَّهَا لَم تَأكُلهُ .

ثمَّ نَقَضَ الصَّحِيفَةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَن مَعَهُ من الشِّعْبِ، وَقَد رَأَى المُشْرِكُونَ آيَةً عَظِيمَةً من آياتِ نُبُوَّتِهِ، وَلَكِنَّهُم ـ كَمَا أَخْبَرَ اللُه عَنهُم: ﴿وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ أَعْرَضُوا عن هذهِ الآيَةِ وازْدَادُوا كُفْرَاً إلى كُفْرِهِم.

أيُّها الإخوة الكرام: صَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾. قُرَيشٌ سَعَتْ إلى الحِصَارِ، هيَ نَفْسُهَا سَعَتْ إلى فَكِّهِ، فَكُونُوا على يَقِينٍ بِأَنَّ قُلُوبَ العِبَادِ بَينَ أُصْبُعَينِ من أَصَابِعِ الرَّحمَنِ.

لقد انتَهَى الحِصَارُ، وخَرَجَ مَن في الشِّعْبِ، خَرَجَ الحَبِيبُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ زَوجَتِهِ وبِنْتَيْهِ، ومَن مَعَهُ من المُؤمِنِينَ، وطَافُوا بالبَيتِ، ورَجَعُوا إلى بُيُوتِهِم.

وهكذا عَادَ سَهْمُ قُرَيشٍ الذي أَطْلَقَتْهُ على المُؤمِنِينَ إلى صُدُورِهِم لِيُمَزِّقَهُم شَرَّ مُمَزَّقٍ ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ ابْتِلاءَ اللهِ تعالى للمُؤمِنِينَ بِغَلَبَةِ عَدُوِّهِم عَلَيهِم، وقَهْرِهِم وكَسْرِهِم لَهُم أَحيَانَاً فِيهِ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ لا يَعْلَمُ تَفَاصِيلَهَا إلا اللهُ تعالى، من هذهِ الحِكَمِ:

أولاً: بهذا الابْتِلاءِ يَسْتَخْرِجُ اللهُ تعالى عُبُودِيَّتَهُم وذُلَّهُم لَهُ تَبَارَكَ وتعالى، وسُؤَالَهُم لَهُ النَّصْرَ على الأَعْدَاءِ، ولَو كَانُوا دَائِمَاً مَنْصُورِينَ قَاهِرِينَ غَالِبِينَ لَبَطَرُوا وأَشِرُوا، ولَو كَانُوا دَائِمَاً مَقْهُورِينَ مَغْلُوبِينَ مَنْصُورَاً عَلَيهِم عَدُوُّهُم لَمَا قَامَتْ لَهُم وللدِّينِ قَائِمَةٌ، فاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ تعالى أن صَرَّفَهُم بَينَ غَلَبِهِم تَارَةً، وكَوْنِهِم مَغْلُوبِينَ تَارَةً أُخْرَى، إذا غُلِبُوا تَضَرَّعُوا إلى رَبِّهِم وأَنَابُوا، وإذا غَلَبُوا أَقَامُوا الدِّينَ.

ثانياً: لولا هذا الابْتِلاءُ لَدَخَلَ مَعَهُم مَنْ لَيسَ مِنهُم، ومَنْ لَيسَ لَهُ مُرَادٌ إلا الدُّنيَا والجَاهُ والسِّيَادَةُ والرِّيَادَةُ.

ثالثاً: بهذا الابْتِلاءِ يُمَحِّصُهُم رَبُّنَا عزَّ وجلَّ، ويُخَلِّصُهُم، ويُهَذِّبُهُم، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ واللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: الحَسْرَةُ لا تَكُونُ على فَقْدِ مَالٍ ولا جَاهٍ ولا سِيَادَةٍ ولا رِيَادَةٍ، ولا صِحَّةٍ ولا عَافِيَةٍ، الحَسْرَةُ كُلُّ الحَسْرَةِ أن يَقُولَ العَبْدُ يَومَ القِيَامَةِ: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾. أَعظَمُ خَسَارَةٍ هيَ خَسَارَةُ العَبْدِ نَفْسَهُ وأَهلَهُ يَومَ القِيَامَةِ، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾.

اللَّهُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَينَا غَضَبٌ فلا نُبَالِي، ولكنْ عَافِيَتُكَ أَوْسَعُ لَنَا، فَثَبِّتْنَا يَا رَبَّنَا بالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا في الآخِرَةِ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 21/جمادى الأولى/1435هـ، الموافق: 12/آذار / 2015م