427ـ خطبة الجمعة: يكفي الصابر شرفاً...

 

 427ـ خطبة الجمعة: يكفي الصابر شرفاً...

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، الإِنسَانُ المُؤمِنُ يَستَظِلُّ بِشَجَرَةِ الإِيمَانِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنيَا، يَتَنَعَّمُ بِفَيئِهَا، ويَتَغَذَّى بِثِمَارِهَا ويَتَلَذَّذُ بِحَلَاوَةِ طَعمِهَا، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بالله رَبَّاً، وَبِالْإِسْلَامِ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً» رواه الإمامُ مُسلِمٌ عَن الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

شَجَرَةُ الإِيمَانِ نَفعُهَا دَائِمٌ، وَظِلُّهَا دَائِمٌ، قَالَ تَعَالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، لا يَسْتَفِيدُ مِن خَيرِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، إلَّا مَن اسْتَعَانَ بِصَبْرٍ عَلى مَشَاقِّ زِرَاعَتِهَا، وإِزَالَةِ مَا يُعَرقِلُ نُمُوَّهَا، وَيُعَكِّرُ صَفوَهَا، وأَسْرَعَ إِلى تَنمِيَتِهَا واستِمرَارِهَا، ولِهَذَا خَاطَبَ اللهُ تَعالى عِبَادَهُ المُؤمِنيِنَ بِقَولِهِ تَعالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِين﴾.

دَوَاءُ الأَزَمَاتِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، المُؤمِنُ الحَقُّ الصَّادِقُ فِي إيمَانِهِ يَرضَى بِقَضَاءِ اللهِ تَعالى، ويَصبِرُ عَلى مَا يَحُلُّ بِهِ مِن عُسرٍ وَضِيقٍ وشِدَّةٍ ومِحنَةٍ ومَرَضٍ وفِرَاقٍ.

وَقَد وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَالَ المُؤمِنَ فِي السَرَّاءِ والضَرَّاءِ، فَقَال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَجَباً لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ» رواه الإمام مُسلِم عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. فَالمُؤمِنُ يَتَلَقَّى النِّعمَةَ بِالشُّكرِ، ويَتَلَقَّى البَلاءَ بِالصَّبرِ، فَهُوَ عَلى خَيرٍ فِي كُلِّ حَالٍ.

يَا عِبَادَ اللهِ، إِذَا نَزَلَ بِكُم ضِيقٌ أو عُسْرٌ، أَو مَرَضٌ، فَلَا تُكثِرُوا الشَّكوَى، ولَا تُظهِرُوا الضِيقَ والضَّجَرَ، وَعَلَيكُم بِدَوَاءِ الأَزَمَاتِ والمُلِمَّاتِ الذِي أَمَرَنَا اللهُ تَعالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ العَظِيمِ بِقَولِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، مَن سَلَكَ طَرِيقَ الصَّبرِ فِي حَالِ عُسْرِهِ ومَرَضِهِ وكَربِهِ وشِدَّتِهِ وَضِيقِهِ، أَفَاضَ اللهُ تَعالَى عَليهِ من خَزَائِنِ رَحمَتِه مَا يُهَوِّنُ بِهِ عَليهِ أَحوَالَهُ، حتَّى يَرى المِنحَةَ مِن وَسَطِ المِحنَةِ، وَيَرى اليُسرَ مِن قَلبِ العُسرِ، وَيَرَى الفَرَجَ مِن قَلبِ الضِّيقِ.

يَكفِي الصَّابِرَ شَرَفَاً...

يَا عِبَادَ اللهِ، لَو تَدَبَّرنَا القُرآنَ العَظِيمَ وَثَمَراتِهِ لَرَأينَا العَجَبَ العُجَابَ.

يَا عِبَادَ اللهِ، مِن خِلَالِ قَولِهِ تَعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.

أَتَوَجَّهُ إِلى كُلِّ صَاحِبِ ابتِلَاءٍ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا، لِأُبَشِّرَهُ إِذَا كَانَ مِنَ الصَّابِرِينَ بِهَذِهِ البَشَائِرِ:

أولاً: يَكفِيكَ شَرَفاً وَعِزَّاً وَفَضلاً يَا أَيُّهَا الصَّابِرُ أنَّكَ مَحبُوبٌ عِندَ اللهِ تَعَالى، قَال تَعَالى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾.

ثَانِياً: يَكفِيكَ شَرَفاً وَعِزَّاً وَفَضلاً يَا أَيُّهَا الصَّابِرُ، أنَّ اللهَ تَعَالى مَعَكَ، قَالَ تَعالى: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.

ثَالثاً: يَكفِيكَ شَرَفاً وَعِزَّاً وَفَضلاً يَا أَيُّهَا الصَّابِرُ أنَّ لَكَ عُقبَى الدَّارِ، قَالَ تَعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

رَابِعاً: يَكفِيكَ شَرَفاً وَعِزَّاً وَفَضلاً يَا أَيُّهَا الصَّابِرُ أنَّكَ سَوفَ  تُوَفَّى أَجرَكَ يَومَ القِيَامَةِ بِغَيرِ حِسَابٍ، قَالَ تَعالى: ﴿يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

خَامِساً: يَكفِيكَ شَرَفاً وَعِزَّاً وَفَضلاً يَا أَيُّهَا الصَّابِرُ أنَّ كَيدَ الكَائِدِينَ لَا يَضُرُّكَ، قَالَ تَعالى: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾.

سَادِساً: يَكفِيكَ شَرَفاً وَعِزَّاً وَفَضلاً يَا أَيُّهَا الصَّابِرُ أنَّ لَكَ جَنَّةً وحَرِيراً يَومَ القِيَامَةِ، قَالَ تَعالى: ﴿وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً﴾.

سَابعَاً: يَكفِيكَ شَرَفاً وَعِزَّاً وَفَضلاً يَا أَيُّهَا الصَّابِرُ أَنَّكَ لَستَ مِنَ الخَاسِرِينَ يَومَ القِيَامَة، وقَد أَقسَمَ اللهُ تَعالى عَلى ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الصَّبرُ ضَرُوريٌّ لِلمُؤمِنِ الذِي آمَن بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ، ولَا يُمكِنُ أن يَعِيشَ الإِنسَانُ بِغَيرِ صَبرٍ، فَمَن صَبَرَ ظَفَرَ، ولَولَا الصَّبرُ مَا حَصَدَ الزَّارِعُونَ زَرعَهُم، ولَولَا الصَّبرُ مَا نَجَحَ الطُّلابُ فِي امتِحَانَاتِهِم، ولَولَا الصَّبرُ لَمَا حَقَّقَ التُّجَّارُ الرِبْحَ فِي تِجَارَتِهِم، ولَولَا صَبرُ المُؤمِنِينَ لَمَا كَانَت لهُم عُقبَى الدَّارِ، ولَمَا كَانَت لَهُمُ الحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا.

يَا عِبَادَ اللهِ، إِذَا كَانَتِ الدَّنيَا الدَّنِيئَةُ التَّافِهَةُ التِي لا تَزِن عِندَ اللهِ تَعالى جَنَاحَ بَعُوضَةٍ لا تُنَالُ إلَّا بِالصَّبرِ، فَهَل مِنَ المَعقُولِ أن تُنَالَ سِلعَةُ اللهِ تعالى التِي هِيَ الجَنَّةُ بِغَيرِ الصَّبرِ؟

يَا عِبَادَ اللهِ، طُلَّابُ الدُّنيَا صَبَرُوا حَتَّى نَالُوهَا، وكَذَلِكَ طُلَّابُ الآخِرَةِ صَبَرُوا حَتَّى نَالُوهَا، ولَكِن شَتَّانَ مَا بَينَ طَالِبِ الدَّنيَا وطَالِبِ الآخِرَةِ، فَهُمَا لَا يِستَوِيانِ عِندَ اللهِ تَعالى، قَالَ تَعالى: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، يَا مَن أَكرَمَكُمُ اللهُ تَعَالى بِنِعمَةِ الإِيمَانِ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، وبالإِيمَانِ بالقَضَاءِ وَالقَدَرِ، اصبِرُوا حَتَّى تَلقَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلى الحَوضِ، لِيَأخُذَ بِيَدِكُم إلى جَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَواتِ والأَرَضِ.

اللَّهُمَّ اجعَلنَا مِنَ الصَّابِرِينَ الشَّاكِرِينَ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 22/جمادى الأولى/1435هـ، الموافق: 13/آذار / 2015م