35ـ أشراط الساعة: التكذيب بالقدر

 

أشراط الساعة

35ـ التكذيب بالقدر

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا أيُّها الإخوة الكرام:

من أَشْرَاطِ السَّاعَةِ التي تَحَدَّثَ عَنْهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، والتي ظَهَرَتْ، بَل ومَا زَالَتْ في ازْدِيَادٍ: التَّكْذِيبُ بالقَدَرِ.

روى البَزَّارُ عَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى صَلَاتَهُ نَادَاهُ رَجُلٌ: مَتَى السَّاعَةُ؟

فَزَبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ـ زَجَرَهُ ـ وَانْتَهَرَهُ وَقَالَ: «اُسْكُتْ» حَتَّى إِذَا أَسْفَرَ، رَفَعَ طَرْفَهُ إلى السَّمَاءِ، فَقَالَ: «تَبَارَكَ رَافِعُهَا وَمُدَبِّرُهَا» ثمَّ رَمَى بِبَصَرِهِ إلى الأَرْضِ، فَقَالَ: «تَبَارَكَ دَاحِيهَا ـ بَاسِطُهَاـ وَخَالِقُهَا» ثمَّ قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ عَن السَّاعَةِ؟».

فَجَثَا الرَّجُلُ على رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: أَنَا ـ بِأَبِي وَأُمِّي ـ سَأَلْتُكَ.

فَقَالَ: «ذلكَ عِنْدَ حَيْفِ الأَئِمَّةِ ـ جَوْرُ الأَئِمَّةِ ـ، وَتَصْدِيقٍ بالنُّجُومِ ـ بأَنَّ لَهَا تَأثِيراً فِي العَالَم ـ، وَتَكْذِيبٍ بالقَدَرِ، وَحِينَ تُتَّخَذُ الإمَامَةُ مَغْنَمَاً، والصَّدَقَةُ مَغْرَمَاً، والفَاحِشَةُ زِيَادَةً ـ يَعنِي يَصنَعُ فَاسِقٌ لِصَاحِبِهِ طَعَاماً وشَرَاباً ويَاتِيهِ بِالمَرأةِ، فَيَقُولُ: اصنَع لِي كَمَا صَنَعتُ لَكَ ـ ، فَعِنْدَ ذلكَ هَلَكَ قَوْمُكَ».

وروى الإمام احمد وأبو داود عَنْ نَافِعٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ لِابْنِ عُمَرَ صَدِيقٌ مِنْ أَهْلِ الشَّأْمِ يُكَاتِبُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَرَّةً عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي شَيْءٍ مِن الْقَدَرِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيَّ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ».

أَوَّلُ مَن تَكَلَّمَ بالقَدَرِ:

أيُّها الإخوة الكرام: روى الترمذي عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ.

قَالَ: فَخَرَجْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَتَّى أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ، فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا رَجُلَاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا أَحْدَثَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ.

قَالَ: فَلَقِينَاهُ ـ يَعْنِي عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ـ وَهُوَ خَارِجٌ مِن الْمَسْجِدِ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي ـ وَاحِدٌ عن يَمِينِهِ والآخرُ عَن يَسَارِهِ ـ، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ.

فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّ قَوْمَاً يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ ـ يَطلُبُونَ العِلمَ ويَتَّبِعُونَ أثَرَهُ ـ ، وَيَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ. ـ أي: مُستَأنَف لَم يَسبِق بِهِ قَدَرٌ، ولا عِلمٌ مِنَ الله تَعالى، وإنَّمَا يَعلَمهُ بَعدَ وُقُوعِهِ ـ.

قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَأَنَّهُمْ مِنِّي بُرَءَاءُ، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبَاً مَا قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.

أيُّها الإخوة الكرام: هُنَاكَ مَن يَنْفِي القَدَرَ ويُكَذِّبُهُ، ويَقُولُ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ بِهِ سَابِقَةُ عِلْمِ اللهِ تعالى ولا مَشِيئَتُهُ، وإِنَّمَا أَفْعَالُ الإِنْسَانِ مَوْجُودَةٌ بِعِلْمِ الإِنْسَانِ واخْتِيَارِهِ، وفي ذلكَ هَلاكُ الأُمَّةِ.

روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:هَلاكُ أُمَّتِي فِي ثَلاثٍ: فِي الْعَصَبِيَّةِ ـ المُحَامَاةُ والدِّفَاعُ عَن عُصبَةِ الرَّجُلِ الظَّالِمَةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَالرِّوَايَةِ فِي غَيْرِ تَثَبُّتٍ.

القَدَرِيَّةُ: يَقُولُونَ بِأَنَّ العَبْدَ يَخْلُقُ فِعْلَهُ.

عَذَّبَهُم وهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ:

أيُّها الإخوة الكرام: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بالقَدَرِ فَفِي إِيمَانِهِ خَلَلٌ، ولا يَنْتَفِعُ بِعَمَلٍ صَالِحٍ مَهْمَا كَانَ.

روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ قَالَ: خَاصَمْتُ الْقَدَرِيَّةَ فَأَحْرَجُونِي، فَأَتَيْتُ عِمْرَانَ بن الْحُصَيْنِ الْخُزَاعِيَّ صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا نُجَيْدٍ، خَاصَمْتُ الْقَدَرِيَّةَ فَأَحْرَجُونِي، فَهَلْ مِنْ حَدِيثٍ تُحَدِّثُنِي لَعَلَّ اللهَ يَنْفَعُنِي بِهِ؟

قَالَ: لَعَلِّي لَوْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَاً لَبِسْتَ عَلَيْهِ أُذُنَيْكَ كَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْهُ. ـ يَعنِي: تَصَامَت عَنهُ ـ

فَقُلْتُ: إِنَّمَا جِئْتُ لِذَلِكَ.

فَقَالَ: لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الأَرْضِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ، وَلَوْ أَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ كَانَتْ رَحْمَتُهُ أَوْسَعَ لَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، فَإِذَا هُوَ كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾. فَمَنْ عُذِّبَ فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَنْ رُحِمَ فَهُوَ الْحَقُّ، وَلَوْ كَانَتِ الْجِبَالُ لأَحَدِكُمْ ذَهَبَاً أَوْ وَرِقَاً، فَأَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، لَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ.

وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي مِن الْقَدَرِ شَيْءٌ، فَأُحِبُّ أَنْ تُحَدِّثَنِي بِحَدِيثٍ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُذْهِبَ عَنِّي مَا أَجِدُ.

قَالَ: لَوْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَذَّبَ أَهْلَ السَّمَوَاتِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرَاً مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ أُحُدٌ لَكَ ذَهَبَاً فَأَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ لَمْ تُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، مَا تُقُبِّلَ مِنْكَ، وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ دَخَلْتَ النَّارَ.

مَا شَاءَ اللهُ كَانَ:

أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ من أَعْظَمِ أَرْكَانِ الإِيمَانِ المَعْلُومَةِ لَدَى كُلِّ مُسْلِمٍ ومُسْلِمَةٍ الإِيمَانَ بالقَضَاءِ والقَدَرِ، خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، أَنَّهُ من عِنْدِ اللهِ تعالى، ولا رَادَّ لِحُكْمِهِ سُبْحَانَهُ، ولا يُقْبَلُ إِيمَانُ العَبْدِ حَتَّى يُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ.

ولَقَد كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يُرَبُّونَ أَبْنَاءَهُم على ذلكَ، فهذا سَيِّدُنَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يُوصِي وَلَدَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ.

قَالَ: رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟

قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ».

يَا بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي» رواه أبو داود عَنْ أَبِي حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: المُؤْمِنُ مَنْ يُؤْمِنُ باللهِ تعالى، ويُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تعالى يَعْلَمُ مَا كَانَ ومَا يَكُونُ ومَا سَيَكُونُ، ومَا لَمْ يَكُنْ لَو كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، وأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، ومَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وأَنَّ النَّاسَ لَو اجْتَمَعُوا على أَنْ يُنْفِذُوا أَمْرَاً لَمْ يَشَأْهُ اللهُ عزَّ وجلَّ في مَلَكُوتِهِ لَمْ يَقَعْ، وقَد أَكَّدَ ذلكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَو اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَت الْأَقْلَامُ، وَجَفَّت الصُّحُفُ» رواه الترمذي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَزِيدَ في إِيمَانِنَا حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَنَا إلا مَا كَتَبَهُ اللهُ لَنَا. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

 

الأربعاء: 20/شوال /1436هـ، الموافق: 5/آب / 2015م