15ـ دروس رمضانية لعام 1436: هل من معتبر؟

 

 15ـ دروس رمضانية لعام 1436: هل من معتبر؟

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا أيُّها الإخوة الكرام:

لقد كانَ خُلُقُ سَلَفِنا الصَّالِحِ الإِيثَارَ، حَيْثُ تَجَاوَزُوا مَرْحَلَةَ العَدْلِ إلى مَرْحَلَةِ الفَضْلِ، فَكَانُوا يَتَعَامَلُونَ فِيمَا بَيْنَ بَعْضِهِمُ البَعْضِ بالفَضْلِ وبالإِيثَارِ، كَمَا شَهِدَ اللهُ تعالى لهم بذلكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾. وبذلكَ كَانُوا كالجَسَدِ الوَاحِدِ، إذا اشتكى مِنهُ عُضوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى.

أمَّا خُلُقُ مُجتَمِعِنا اليَوْمَ بِشَكْلٍ عَامٍّ ـ إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى ـ هوَ الأَثَرَةُ التي هيَ ضِدَّ الإيثارِ، وَنَعُوذُ باللهِ أن نتَّصِفَ بهذهِ الصِّفَةِ الذَّميمةِ التي هيَ ضدُّ ما كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُنا الصَّالِحُ، وخاصَّةً من المهاجِرينَ والأنصارِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم.

الأَثَرةُ ظُلمٌ وأيُّ ظُلمٍ:

أيُّها الإخوة الكرام: الأَثَرةُ ظُلمٌ وأيُّ ظُلمٍ يَقَعُ فيه العَبدُ الغَافِلُ عن اللهِ تعالى، فَهِيَ خُلُقٌ ذَمِيمٌ يَتَّصِفُ به مَن آثَرَ الحَيَاةَ الدُّنيَا على الآخِرَةِ، وطَغَى طُغْيَانَ الجَبَابِرَةِ ـ والعياذُ باللهِ تعالى ـ قَالَ تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الأَثَرَةَ إذا تَفَشَّتْ في المُجْتَمَعِ وانْتَشَرَتْ وَعَمَّتْ وطَمَّتْ تَكُونُ سَبَبَاً في عُزْلَةِ الصَّالِحينَ والأولياءِ والعارِفينَ والعُلماءِ العامِلينَ عن المجتَمَعِ،  أخرج الترمذي عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟

قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟

قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾.

قَالَ: أَمَا وَاللهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيراً، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «بَل ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحَّاً مُطَاعَاً وَهَوَىً مُتَّبَعَاً وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَع الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّاماً الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ».

قَالَ عَبْدُ الله بْنُ الْمُبَارَكِ: وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟

قَالَ: «بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ».

تَوْجِيهُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَدَّثَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ الكِرَامَ رَضِيَ اللهُ عَنهُم عن الأَثَرَةِ التي مَا كَانَتْ في عَصْرِهِ، وأنَّها سَوْفَ تَكُونُ لاحِقَاً.

أخرج الشيخان عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ».

وأخرج الإمام البخاري عن عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُوراً تُنْكِرُونَهَا».

قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ الله؟

قَالَ: «أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ». وهذانِ الحديثانِ من مُعجِزاتِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

يَا صَاحِبَ الأَثَرَةِ لن يُبارَكَ لكَ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَرْشَدَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأمَّةَ لِنَبذِ خُلُقِ الأَثَرَةِ الذَّميمِ، وبيَّنَ لِصاحِبَ الأَثَرَةِ بأنَّهُ لن يُبارَكَ له فيما يأخُذُ من حُقوقِ الآخَرينَ.

أخرج الشيخان عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى».

وقد بيَّنَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بأنَّ العبدَ يَشيبُ ويَشيبُ معهُ الحِرصُ. روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ، وَتَبْقَى مِنْهُ اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ».       

روى الإمام أحمد عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى الثَّالِثَ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ».

هَلْ من مُعتَبِرٍ؟:

أيُّها الإخوة الكرام: جاء في نَضرةِ النَّعيمِ عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أنَّ مَلِكاً من الملوكِ خَرَجَ يَسيرُ في مَمْلَكَتِهِ، وهو مُسْتَخفٍ من النَّاسِ، فَنَزَلَ على رَجُلٍ لَهُ بَقَرَةٌ، فَرَاحَت عَلَيْهِ تِلكَ البَقَرَةُ فَحَلَبَتْ، فإذا حِلابُهَا مِقدارُ ثلاثينَ بَقَرَةٍ.

قال: فَأُعجِبَ الملِكُ بها، وقال: ما صَلَحَت هذهِ إلا أن تكونَ لي، فإذا صِرْتُ إلى مَوضِعي بَعَثتُ إليه فأخَذتُها.

قال: وأقامَ إلى الغَدِ فَغَدَتِ البَقَرَةُ إلى مَرعَاها ثمَّ رَاحَت فَحَلَبَت، فإذا حِلابُها قد نَقَصَ عن النِّصفِ، وجاءَ حِلابُ خَمسَ عَشرةَ بَقَرَةٍ.

قال: فَدَعَا الملِكُ رَبَّها.

فقال له: هل رَعَتْ في غَيْرِ مَرعَاها بالأَمْسِ، أو شَرِبَتْ في غَيْرِ مَشرَبِها بالأَمْسِ؟

قال: ما رَعَتْ في غَيْرِ مَرعَاها بالأَمْسِ، ولا شَرِبَت في غَيْرِ مَشرَبِها بالأَمْسِ.

قال: ما بالُ لَبَنِها قد نَقَصَ؟

قال: يُشبِهُ أن يَكُونَ الملِكُ قد هَمَّ بأخْذِهَا.

فقال له المَلِكُ: وأنتَ من أَينَ يَعرِفُكَ الملِكُ؟

فقال له: هوَ كَمَا أَقُولُ لَكَ، فإذا الملِكُ ظَلَمَ أو هَمَّ بِظُلمٍ ذَهَبَتِ البَرَكَةُ ـ أو قال: ارتَفَعَتِ البَرَكَةُ ـ.

قال: فَعاهَدَ الملِكُ رَبَّهُ في نَفْسِهِ أنْ لا يأخُذَها ولا تَكُونَ لَهُ في مُلكٍ أَبَدَاً.

قال: وَأَقَامَ الغَدَ ثمَّ غَدَتِ البَقَرَةُ إلى مَرعَاها، فَحَلَبَت، فإذا حِلابُها قد عادَ إلى ما كانَ.

قال: فَدَعَا صَاحِبَهَا.

فقال له: هل رَعَت بَقَرَتُكَ في غَيْرِ مَرعَاها بالأَمْسِ، أو شَرِبَت في غَيْرِ مَشرَبِها بالأَمْسِ؟

قال: لا.

قال: فما بالُ لَبَنِها قد عادَ؟

قال: يُشبِهُ أن يَكُونَ الملِكُ قد هَمَّ بالعدلِ.

قال: فاعتَبَرَ الملِكُ.

وقال: لا جَرَمَ، ولأعْدِلَنَّ ولأكُونَنَّ على أَفْضَلَ من ذلكَ، أو نحوِ هذا.

فهل من مُعتَبِرٍ من كلِّ راعٍ استَرعاهُ اللهُ تعالى على رَعِيَّتِهِ بحديثِ سيِّدِنا عبدِ الله بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما عن هذا الملِكِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: بالأَثَرَةِ تَحُلُّ النِّقَمُ وتَذهبُ النِّعَمُ، وهيَ مِعولٌ هدَّامٌ وشرٌّ مُستطيرٌ، وبها يَضِيعُ العَدْلُ ويَنْتَفِي خُلُقُ الكَرَمِ، وبها يَحُلُّ العِداءِ والكراهِيَةُ مَحَلَّ المَحَبَّةِ والمَوَدَّةِ في القُلُوبِ، وهيَ سَبَبٌ لانتِفاءِ كَمَالِ الإِيمانِ، وقد تَذْهَبُ بالإِسْلامِ ـ والعِيَاذُ باللهِ تعالى ـ وهيَ سَبَبٌ لانحِلالِ عُقدةِ المجتَمَعِ وانفِصامِ عُراهُ، وهيَ ظُلمٌ شديدٌ وأيُّ ظُلمٍ، بل إنَّ ظُلمَها ينعَكِسُ على أَصْحَابِها، بِحَيْثُ تجعَلُهُم مَغرورينَ بأنفُسِهِم، حتَّى يظُنُّوا أنَّهُ لا تَبْدِيلَ ولا تَغْييرَ ولا مُداولةَ، ونسوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء واللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِين﴾.

جاء في الزَّواجِر عن اقتِرافِ الكبائِرِ: أنَّ يحيى بنَ خالدَ بنَ بَرمَك لَمَّا حُبِسَ وَوَلَدُهُ، قَالَ له وَلَدُهُ: يَا أَبَتِ، بَعْدَ الْعِزِّ صِرْنَا فِي الْقَيْدِ وَالْحَبْسِ.

فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، دَعْوَةُ مَظْلُومٍ سَرَتْ بِلَيْلٍ غَفَلْنَا عَنْهَا، وَلَمْ يَغْفُلِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 27/رمضان/1436هـ، الموافق: 14/تموز / 2015م