454ـ خطبة الجمعة: السفر إلى بلاد الكفر (2)

 

 454ـ خطبة الجمعة: السفر إلى بلاد الكفر (2)

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عِبَادَ اللهِ، مَا نَحْنُ فِيهِ يَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ وإلى مُصَابَرَةٍ، يَحْتَاجُ إلى ثَبَاتٍ ويَقِينٍ، إلى ثَبَاتٍ في البَقَاءِ في البَلَدِ دُونَ خُرُوجٍ مِنْهَا، لأَنَّهَا بِلادٌ مُبَارَكَةٌ، لأَنَّهَا بِلادٌ وُلِدْنَا فِيهَا، ودَرَجْنَا على أَرْضِهَا، وأَكَلْنَا من خَيْرَاتِهَا وثِمَارِهَا، كَمَا نَحْتَاجُ إلى يَقِينٍ بِأَنَّ المَوْئِلَ أَيَّامَ الفِتَنِ هِيَ بِلادُ الشَّامِ.

لَقَد أُوذِيَ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ الإِيذَاءِ، ولَكِنَّهُم مَا أَذَلُّوا أَنْفُسَهُم، لِعِلْمِهِم بِأَنَّ الأَجْرَ على قَدْرِ المَشَقَّةِ، وأَنَّ الحَقَّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، وعِنْدَمَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، جَاؤُوا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ، روى الإمام البخاري عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟

قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْـحَدِيدِ مَا دُونَ لَـحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، واللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ، أَو الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».

الهِجْرَةُ إلى الحَبَشَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، هذهِ الأَزْمَةُ القَاسِيَةُ على شَبَابِنَا خَاصَّةً، دَفَعَتِ الكَثِيرَ مِنْهُم للتَّوَجُّهِ إلى بِلادِ الكُفْرِ، وبِكُلِّ أَسَفٍ حَتَّى عَن طَرِيقٍ غَيْرِ نِظَامِيٍّ، مَعَ تَعْرِيضِ أَنْفُسِهِم للمَخَاطِرِ، وبَذْلِ الأَمْوَالِ الطَّائِلَةِ، مُسْتَدِلِّينَ كَمَا أُلْقِيَ إِلَيْهِم بأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لأَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم بالسَّفَرِ إلى الحَبَشَةِ، وبِتَرْكِ مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ.

يَا عِبَادَ اللهِ، قِيَاسٌ مَعَ الفَارِقِ الكَبِيرِ، قِيَاسٌ بَعِيدٌ كَبُعْدِ السَّمَاءِ عَن الأَرْضِ.

أولاً:مَا خَرَجُوا مِن مَكَةَ إِلى الحَبَشَةِ إِلَّا بِأَمرٍ مِن سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الَّذي أَمَرَنَا اللهُ بِطَاعَتِهِ بِقَولِهِ تَعالى ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ فَالَذِي أَمَرَهُم بِالخُرُوجِ هُوَ القَائِلُ فِي الحَدِيثِ الصَّحيحِ « أَنَا بَرِيءٌ مِن كُلِّ مُسلِمٍ يُقِيمُ بَينَ أَظهُرِ الـمُشرِكِينَ» .رواه أبو داوود والترمذي .فَنَحنُ نَمتَثِلُ أَمْرَهُ عَلَى الإِطلَاقِ بِدُونِ قَيدٍ وَلَا شَرطٍ وَافَقَ ذَلِكَ هَوَانَا أَم خَالَفَهُ

ثانياً: الأَرْضُ التي هَاجَرُوا مِنْهَا كَانَتْ أَرْضَ كُفْرٍ وشِرْكٍ، ومُحَارَبَةٍ لِدِينِ اللهِ جِهَاراً نَهَاراً، لا يُمْكِنُ لأَحَدِهِم أَنْ يُفْصِحَ عَن عَقِيدَتِهِ فَضْلاً عَن أَدَاءِ عِبَادَتِهِ، إلى أَرْضٍ لا ظُلْمَ فِيهَا، لأَنَّ فِيهَا رَجُلاً يُقِيمُ الحَقَّ، من غَيْرِ تَبْدِيلٍ ولا تَحْرِيفٍ.

ثالثاً: هِجْرَتُهُم رَضِيَ اللهُ عَنهُم لَيْسَتْ فِرَارَاً من المُوَاجَهَةِ، ولا خُرُوجَاً من الثَّبَاتِ على الدِّينِ، بَل كَانَتْ تَأْكِيدَاً على أَوْلَوِيَّةِ الدِّينِ عِنْدَهُم، وأَنَّ الدِّينَ عِنْدَهُم أَغْلَى من الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا، ومَا كَانُوا يَطْلُبُونَ دُنْيَا على حِسَابِ دِينِهِم.

رابعاً: لَقَد كَانَتْ هِجْرَتُهُم رَضِيَ اللهُ عَنهُم إلى رَجُلٍ رَشِيدٍ، نَظِيفِ العَقْلِ، حَسَنِ المَعْرِفَةِ باللهِ تعالى، سَلِيمِ الاعْتِقَادِ في سَيِّدِنَا عِيسَى بِأَنَّهُ عَبْدٌ للهِ ورَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يظلم في أَرضِهِ أَحَدٌ.

لَـمَّا جَاءَهُ عَمْرُو بْنُ العَاصِ ـ رَسُولاً من قُرَيْشٍ ـ لِيَرُدَّ المُهَاجِرِينَ إلى مَكَّةَ، وجَاءَ إلى النَّجَاشِيِّ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَطَلَبَ النَّجَاشِيُّ العَادِلُ المُهَاجِرِينَ مِنْهُم بَعْدَ أَنْ أَسَاءَ فِيهِمُ القَوْلَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ، وبَثَّ الفِتْنَةَ، وأَشَاعَ الخِلافَ.

جَاءَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَمَاذَا قَالَ جَعْفَرُ؟

هَلْ قَالَ قَوْلاً على حِسَابِ دِينِهِ وعَقِيدَتِهِ وإِسْلامِهِ؟

لَقَد قَالَ قَوْلاً فِيهِ كَمَالُ العِزَّةِ بالإِسْلامِ والإِيمَانِ، قَالَ: أَيُّهَا الْـمَلِكُ، كُنَّا قَوْمَاً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْـمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولَاً مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِن الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْـحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَن الْـمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَن الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْـمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئَاً، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ.

قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئَاً، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِن الْـخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الـْمَلِكُ. رواه الإمام أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ، هذهِ هِيَ لُغَةُ السِّيَاسَةِ الإِسْلامِيَّةِ الإِيمَانِيَّةِ، لَيْسَ نِفَاقَاً سِيَاسِيَّاً، ولا دَنِيَّةً دِينِيَّةً، بَلْ هِيَ إِظْهَارٌ للإِسْلامِ، مَعَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، والوُقُوفِ مَعَ المَبْدَأِ الحَقِّ دُونَ تَمَيُّعٍ ولا تَنَصُّلٍ من حَقَائِقِهِ.

خامساً: لا تَغْيِيرَ ولا تَبْدِيلَ من أَجْلِ دُنْيَا دَنِيَّةٍ، من قِبَلِ المُهَاجِرِينَ إلى الحَبَشَةِ، وَلا مُداهَنَةَ فالحقُ أحقُ أن يُتَّبَعَ.

يَقُولُ الدَّاهِيَةُ عَمْرُو بْنُ العَاصِ، بَعْدَ أَنْ قَالَ مَا قَالَهُ جَعْفَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: واللهِ لآتِيَنَّهُمُ الغَدَاةَ بِمَا يُبِيدُ خَضْرَاءَهُم، فَقَالَ للنَّجَاشِيِّ: إِنَّ هؤلاءِ يَقُولُونَ في عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ قَوْلاً عَظِيمَاً.

وَهُنَا جَاءَتِ المُعْضِلَةُ والطَّامَّةُ الكُبْرَى، والمَوْقِفُ المُحَيِّرُ، وُجُودُهُم وَأَمْنُهُم وعَيْشُهُم ورَغَدُهُم، أَمِ المَوْقِفُ الصَّحِيحُ، والدِّينُ الحَقُّ، والعَقِيدَةُ السَّلِيمَةُ؟

فَأَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ يَسْأَلُهُم عَن قَوْلِهِم في عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ.

فَقَالَ جَعْفَرُ: نَقُولُ فِيهِ الذي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ العَذْرَاءِ البَتُولِ.

فَأَخَذَ النّجَاشِيّ عُودَاً مِن الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ ما عدا عِيسَى بنُ مَريَمَ مَا قُلتَ هَذَا الْعُودَ.

يَا عِبَادَ اللهِ، لا دَنِيَّةَ في الدِّينِ، ولا مُسَاوَمَةَ في العَقِيدَةِ، ولا تَغْيِيرَ في أَحْكَامِ اللهِ تعالى.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، السَّفَرُ إلى بِلادِ الكُفْرِ طَامَّةٌ كُبْرَى وخَاصَّةً في هذهِ الأَزْمَةِ، لأَنَّهُم واللهِ لا يُحِبُّونَنَا، ولا يَرْضَوْنَ عَنَّا حَتَّى نَتَّبِعَ مِلَّتَهُم، وإِنَّهُمُ اسْتَغَلُّوا هذهِ الأَزْمَةَ للطَّعْنِ في دِينِنَا، وقَالُوا: لَقَد فَتَحْنَا صُدُورَنَا للمُسْلِمِينَ، حِينَ أَغْلَقَتْ مَكَّةُ وبِلادُ المُسْلِمِينَ الأَبْوَابَ أَمَامَهُم، وسَوْفَ يَذْكُرُنَا التَّارِيخُ بذلكَ.

نَعَم، يَا عِبَادَ اللهِ، واللهِ سَوْفَ يَذْكُرُهُمُ التَّارِيخُ بِخُبْثِهِم ومَكْرِهِم وكَيْدِهِم بِالـمُؤمِنينَ، وسَوْفَ يَرَوْنَ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم يَومَ القِيَامَة ِمن كَيْدٍ لِدِينِ اللهِ تعالى وللمسلمينَ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى العَفْوَ والعَافِيَةَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

 

الجمعة: 27/ذو القعدة /1435هـ، الموافق: 11/أيلول/ 2015م