458ـ خطبة الجمعة: أسباب تفريج الكربات (1)

 

 458ـ خطبة الجمعة: أسباب تفريج الكربات (1)

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

المَخَاوِفُ من المُسْتَقْبَلِ المَجْهُولِ كَثِيرَةٌ، والأَمَانُ مِنْهَا يَكُونُ في التَّوَكُّلِ على اللهِ تعالى وَحْدَهُ، وفي الرِّضَا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، الخَوْفُ من وُقُوعِ الكَوَارِثِ والشَّدَائِدِ والمِحَنِ هُوَ بِحَدِّ ذَاتِهِ كَارِثَةٌ، وَقَد يَكُونُ الخَوْفُ أَشَدَّ أَلَماً من وُقُوعِ الكَوَارِثِ والشَّدَائِدِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، مَن خَافَ مِن المُسْتَقْبَلِ المَجْهُولِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾. فَإِنَّ مَن تَذَكَّرَ هذهِ الآيَةَ والْتَزَمَهَا سُلُوكَاً وعَمَلاً نَفَى اللهُ عَنْهُ الخَوْفَ مِمَّا هُوَ أَمَامَهُ، كَمَا أَنَّهُ يَنْفِي عَنْهُ الحُزْنَ على مَا خَلَّفَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَأَتَتْهُ البَشَائِرُ، فَكَانَ من المُتَفَائِلِينَ لا من المُتَشَائِمِينَ.

هَنِيئَاً لأَصْحَابِ القُلُوبِ الرَّحِيمَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ إلى جَانِبِ هذا بِأَنَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا لا تَخْلُو من المُنَغِّصَاتِ والمُكَدِّرَاتِ، فَأَحْوَالُهَا مُتَبَدِّلَةٌ، وَتَصَارِيفُهَا مُتَغَيِّرَةٌ، تُضْحِكُ وَتُبْكِي، وَتُفْرِحُ وَتُحْزِنُ، وَلَكِنَّ فَرَحَهَا وَحُزْنَهَا لا يَدُومَانِ.

هذهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا عُرْضَةٌ للرَّزَايَا والبَلايَا والكُرُبَاتِ، فلا يَسْلَمُ مِنْهَا غَنِيٌّ بِغِنَاهُ، ولا حَاكِمٌ بِحُكْمِهِ، ولا قَوِيٌّ بِقِوَاهُ، ولا حَكِيمٌ بِحِكْمَتِهِ، ومن رَحْمَةِ اللهِ تعالى بِعِبَادِهِ أَنَّهُ هَيَّأَ أُنَاسَاً ذَوِي قلُوبٍ رَحِيمَةٍ، وَنُفُوسٍ كَرِيمَةٍ، يَتَحَمَّلُونَ المَصَاعِبَ وَيَتَجَشَّمُونَهَا وَيُشَمِّرُونَ عِنْدَ كُلِّ نَازِلَةٍ، يَقْضُونَ حَوَائِجَ المُحْتَاجِينَ، وَيُعِينُونَ البَائِسِينَ والمَسَاكِينَ، يَعِيشُونَ هؤلاءِ حَيَاتَهُمُ الدُّنْيَا للنَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعِيشُونَ لأَنْفُسِهِم، هؤلاءِ هُم صَفْوَةُ البَشَرِ بَعْدَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، هؤلاءِ يَعِيشُونَ نُجَبَاءَ، وَيَمُوتُونَ عُظَمَاءَ، هؤلاءِ شَغَلَتْهُم هُمُومُ النَّاسِ عن هُمُومِ أَنْفُسِهِم، هؤلاءِ هُم أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ تعالى، روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينَاً، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعَاً، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ ـ يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ ـ شَهْرَاً، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَلْبَهُ أَمْنَاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَهَا لَهُ، أَثْبَتَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ».

فَهَنِيئَاً لأَصْحَابِ القُلُوبِ الرَّحِيمَةِ، وَخَاصَّةً في هذهِ الأَزْمَةِ، هَنِيئَاً لَهُم عِنْدَمَا يُخْلِصُونَ بِأَعْمَالِهِم لِيَنَالُوا الأَجْرَ العَظِيمَ يَوْمَ القِيَامَةِ.

أَسْبَابُ تَفْرِيجِ الكُرُبَاتِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، يَا مَن تَخَافُونَ من المُسْتَقْبَلِ المَجْهُولِ، عَلَيَّ وَعَلَيْكُم بِذِكْرِ اللهِ تعالى والاسْتِقَامَةِ، ومن الاسْتِقَامَةِ أَنْ نَسْلُكَ سُبُلَ تَفْرِيجِ الكُرُبَاتِ، من هذهِ السُّبُلِ:

أَولاً: تَقْوَى اللهِ تعالى:

يَا عِبَادَ اللهِ، من أَعْظَمِ أَسْبَابِ تَفْرِيجِ الكُرُبَاتِ تَقْوَى اللهِ عزَّ وجلَّ، وَتَقْوَى اللهِ تعالى تَعْنِي فِعْلَ المَأْمُورَاتِ، وَتَرْكَ المَحْظُورَاتِ، فِعْلَ مَا أَمَرَ، وَتَرْكَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.

وَيَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً﴾ مِن كُلِّ أَمْرٍ ضَاقَ على النَّاسِ. وَعَنْهُ؛ قال: إذا اتَّقَى اللهَ في الطَّلاقِ على وَجْهِ السُّنَّةِ بِأَنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً جَعَلَ لَهُ مَخْرَجَاً مِنْهُ في جَوَازِ الرَّجْعَةِ؛ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلَاً أَتَاهُ وَقَالَ: إِنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَاً، فَهَلْ لَهُ مَخْرَجٌ؟

فَقَالَ: إِنَّ عَمَّكَ عَصَى اللهَ فَأَثِمَ وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً.

وَفِي بَعْضِ الأَخْبَارِ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ في قَوْلِهِ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً﴾. قَالَ: من غُمُومِ الدُّنْيَا وَغَمَرَاتِ المَوْتِ وَشَدَائِدِ الآخِرَةِ.

وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾. أَي: من حَيْثُ لا يَرْجُو ولا يَأْمَلُ.

ثانياً: تَنْفِيسُ الكُرَبِ عَن المَكْرُوبِينَ:

يَا عِبَادَ اللهِ، من أَسْبَابِ كَشْفِ الكُرُبَاتِ، تَنْفِيسُ الكُرَبِ عَن المَكْرُوبِينَ، وَتَنْفِيسُ الهَمِّ عَن المَهْمُومِينَ، وَمُوَاسَاةُ المَحْرُومِينَ، والعَطْفُ على اليَتَامَى والمَسَاكِينِ، روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيمَاً لَهُ فَتَوَارَى عَنْهُ، ثُمَّ وَجَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ.

فَقَالَ: آللهِ؟

قَالَ: آلله.

قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ».

وروى الإمام البخاري عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمَاً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

ثالثاً: الدُّعَاءُ للهِ تعالى:

يَا عِبَادَ اللهِ، من أَسْبَابِ كَشْفِ الكُرُبَاتِ الدُّعَاءُ للهِ تعالى، فَهُوَ من أَجَلِّ الأَسْبَابِ التي تَدْفَعُ النِّقَمَ، وَتَكْشِفُ الكُرَبَ، وَتَجْعَلُ العُسْرَ يُسْرَاً، قَالَ تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾.

الدُّعَاءُ للهِ تعالى هُوَ حِصْنُ المُؤْمِنِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَمَلاذُ الخَائِفِ عِنْدَ النَّوَازِلِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يا عباد الله، عِلاجُ الخَوْفِ من المُسْتَقْبَلِ بِذِكْرِ اللهِ تعالى مَعَ الاسْتِقَامَةِ على أَمْرِ اللهِ تعالى، وَبِتَنْفِيسِ الكُرَبِ عن المَكْرُوبِينَ، وَبِكَثْرَةِ الدُّعَاءِ للهِ تعالى، وَلْيَذْكُرْ كُلٌّ مِنَّا دُعَاءَ سَيِّدِنَا أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وماذا كَانَتْ نَتِيجَةُ هذا الدُّعَاءِ؟ قَالَ تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾.

وَدُعَاءَ سَيِّدِنَا يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وماذا كَانَتْ نَتِيجَةُ هذا الدُّعَاءِ؟ قَالَ تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبَاً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُعَجِّلَ بِتَفْرِيجِ الكَرْبِ، وجَمْعِ شَمْلِ الأُمَّةِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

 

الجمعة: 18/ذو الحجة /1436هـ، الموافق: 2/تشرين الأول / 2015م