46ـ كلمات في مناسبات: غزوة بدر الكبرى (6)

 

 46ـ كلمات في مناسبات: غزوة بدر الكبرى (6)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى لَيْسَتْ قِصَّةً تُقْرَأُ، أو مُحَاضَرَةً تُقَالُ، غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى يَجِبُ على المُسْلِمِ أَنْ يَعِيشَهَا حَيَّةً، فَهِيَ حُجَّةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ، وإِنَّ النَّصْرَ من اللهِ تعالى قَرِيبٌ لِمَنْ آمَنَ باللهِ تعالى حَقَّاً.

أيُّها الإخوة الكرام: إذا اعْتَصَمَ الإِنسَانُ المُؤْمِنُ باللهِ تعالى حَقَّ الاعْتِصَامِ فَكُلُّ أَعْدَاءِ هذا الدِّينِ يُصْبِحُونَ أَمَامَهُ هَبَاءً، فَأَهْلُ بَدْرٍ الكِرَامُ حِينَ أَقْبَلُوا على اللهِ تعالى، وصَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، وأَخْلَصُوا للهِ تعالى، وطَرَحُوا الدُّنيَا وَرَاءَهُم، وَوَضَعُوا أَمَامَ أَنْفُسِهِم أَمْرَاً وَاحِدَاً، ألا وهوَ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هيَ العُلْيَا، ومَا عَدَاهَا السُّفْلَى أَيَّدَهُمُ اللهُ تعالى، فَقَالَ: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾.

إِنَّهُ أَخِي دُونَكَ:

أيُّها الإخوة الكرام: رَابِطَةُ الإِيمَانِ أَعْلَى الرَّوَابِطِ وأَبْقَاهَا، رَابِطَةُ الإِيمَانِ تَعْلُو على رَوَابِطِ الدَّمِ والنَّسَبِ والأَرْضِ، وأُخُوَّةُ الإِيمَانِ تَعْلُو على أُخُوَّةِ النَّسَبِ.

بَعْدَ انْتِهَاءِ المَعْرَكَةِ وَقَعَ أَبُو عَزِيزٍ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو مُصْعَبٍ في الأَسْرِ، فَمَرَّ مُصْعَبٌ بِأَخِيهِ أَبِي عَزِيزٍ الذي خَاضَ المَعْرَكَةَ ضِدَّ المُسْلِمِينَ، مَرَّ بِهِ وَأَحَدُ الأَنْصَارِ يَشُدُّ يَدَهُ.

فَقَالَ مُصْعَبٌ للأَنْصَارِيِّ: شُدَّ يَدَيْكَ بِهِ، فَإِنَّ أُمَّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ، لَعَلَّهَا تُفْدِيهِ مِنْكَ.

فَقَالَ أَبُو عَزِيزٍ لِأَخِيهِ مُصْعَب: أهذهِ وَصَاتُكَ بِي؟

فَقَالَ مُصْعَبٌ: إِنَّهُ ـ أي الأَنْصَارِيُّ ـ أَخِي دُونَكَ.

أيُّها الإخوة الكرام: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِإِلْقَاءِ جِيَفِ المُشْرِكِينَ في القَلِيبِ، وَأُخِذَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فَسُحِبَ إلى القَلِيبِ، نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فِي وَجْهِ ابْنَهِ أَبِي حُذَيْفَةَ، فإذا هُوَ كَئِيبٌ قَد تَغَيَّرَ.

فَقَالَ: يَا أَبَا حُذَيْفَةَ، لَعَلَّكَ قَد دَخَلَكَ من شَأْنِ أَبِيكَ شَيْءٌ؟».

فَقَالَ: لا واللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا شَكَكْتُ في أَبِي ولا مَصْرَعِهِ، وَلَكِنَّنِي كُنْتُ أَعْرِفُ من أَبِي رَأْيَاً وَحِلْمَاً وَفَضْلَاً، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ ذلكَ إلى الإِسْلَامِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا أَصَابَهُ، وَذَكَرْتُ مَا مَاتَ عَلَيْهِ من الكُفْرِ بَعْدَ الذي كُنْتُ أَرْجُو لَهُ أَحْزَنَنِي ذلكَ.

فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِخَيْرٍ، وَقَالَ لَهُ خَيْرَاً.

يَرْحَمُ اللهُ بِلَالَاً، ذَهَبَتْ أَدْرَاعِي، وَفَجَعَنِي بِأَسِيرَيَّ:

أيُّها الإخوة الكرام: من رَوَائِعِ الإِيمَانِ التي ظَهَرَتْ في غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى، قَتْلُ سَيِّدِنَا بِلالٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ رَأْسَ الكُفْرِ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ.

كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَأُمَيَّةَ بْنُ خَلَفٍ صَدِيقَيْنِ في الجَاهِلِيَّةِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ مَرَّ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وهوَ وَاقِفٌ مَعَ ابْنِهِ عَلِيِّ بْنِ أُمَيّةَ، آخِذَاً بِيَدِهِ، ومَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَدْرَاعٌ قَد اسْتَلَبَهَا، وهوَ يَحْمِلُهَا، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: هَلْ لَكَ فِيَّ؟ فَأَنَا خَيْرٌ من هذهِ الأَدْرَاعِ التي مَعَكَ، مَا رَأَيْتُ كاليَوْمِ قَطُّ، أَمَا لَكُم حَاجَةٌ في اللَّبَنِ؟   ـ يُرِيدُ بِاللَّبَنِ أَنَّ مَنْ أَسَرَنِي افْتَدَيْتُ مِنْهُ بِإِبِلٍ كَثِيرَةِ اللَّبَنِ ـ فَطَرَحَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَدْرَاعِ، وَأَخَذَهُمَا يَمْشِي بِهِمَا.

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَالَ لِي أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ: مَن الرَّجُلُ مِنْكُم الْمُعْلَمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ؟

قُلْتُ: ذَاكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

قَالَ: ذَاكَ الذِي فَعَلَ بِنَا الْأَفَاعِيلَ.

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَوَاللهِ إنِّي لَأَقُودُهُمَا إذْ رَآهُ بِلَالٌ مِعَي ـ وَكَانَ أُمَيَّةُ هُوَ الذِي يُعَذِّبُ بِلَالَاً بِمَكّةَ ـ.

فَقَالَ بِلَالٌ: رَأْسُ الكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا.

قُلْتُ: أي بِلَالٌ، أَسِيرِي، قَالَ: لا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا.

قُلْتُ: أَتَسْمَعُ يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ؛ قَالَ: لَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا.

ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَنْصَارَ اللهِ، رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا.

قَالَ: فَأَحَاطُوا بِنَا حَتَّى جَعَلُونَا فِي مِثْلِ الْمُسْكَةِ وَأَنَا أَذُبُّ عَنْهُ.

قَالَ: فَأَخْلَفَ رَجُلٌ السَّيْفَ فَضَرَبَ رِجْلَ ابْنِهِ فَوَقَعَ وَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ.

قَالَ: فَقُلْتُ: اُنْجُ بِنَفْسِكَ، وَلَا نَجَاءَ بِكَ فَوَاللهِ مَا أُغْنِي عَنْك شَيْئَاً.

قَالَ: فَهَبِرُوهُمَا بِأَسْيَافِهِمْ حَتَّى فَرَغُوا مِنْهُمَا.

قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: يَرْحَمُ اللهُ بِلَالَاً، ذَهَبَتْ أَدْرَاعِي، وَفَجَعَنِي بِأَسِيرَيَّ.

«قَاتِلْ بهذا يَا عُكَّاشَةُ»:

أيُّها الإخوة الكرام: في غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى ظَهَرَتْ مُعْجِزَةٌ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

كَانَ عُكَّاشَةُ بْنُ مُحْصِنٍ يُقَاتِلُ في المَعْرَكَةِ، فَانْقَطَعَ سَيْفُهُ في يَدِهِ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ جِذْلَاً ـ عُودَاً ـ مِنْ حَطَبٍ فَقَالَ: «قَاتِلْ بِهَذَا يَا عُكَّاشَةُ».

فَلَمَّا أَخَذَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ هَزَّهُ فَعَادَ سَيْفَاً فِي يَدِهِ طَوِيلَ الْقَامَةِ، شَدِيدَ الْمَتْنِ، أَبْيَضَ الْحَدِيدَةِ؛ فَقَاتَلَ بِهِ حَتَّى فَتَحَ اللهُ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ وَكَانَ ذَلِكَ السَّيْفُ يُسَمَّى: الْعَوْنَ.

أيُّها الإخوة الكرام: عُكَّاشَةُ بْنُ مُحْصِنٍ الذي قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ.

عِنْدَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفَاً بِغَيْرِ حِسَابٍ».

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ».

ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ.

قَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: رَابِطَةُ الدِّينِ أَعْظَمُ من كُلِّ الرَّوَابِطِ والقُرُبَاتِ والأَسْبَابِ، هَا هوَ سَيِّدُنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، قَبْلِ إِسْلامِهِ، يَقُولُ لأَبِيهِ: كُنْتُ أَحِيدُ عَنْكَ ـ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ ـ.

فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ رَأَيْتُكَ لَقَتَلْتُكَ.

وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾. والقَائِلُ: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

 

الجمعة: 23/رمضان /1436هـ، الموافق: 10/تموز/ 2015م