444ـ خطبة الجمعة: ارفعوا عنكم التخاصم

 

 444ـ خطبة الجمعة: ارفعوا عنكم التخاصم

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عِبَادَ اللهِ، هَا هوَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَد قَرُبَ رَحِيلُهُ، وأَزِفَ تَحْوِيلُهُ، هَا هوَ يُوَدِّعُ الأُمَّةَ، وتُوَدِّعُهُ الأُمَّةُ، فَهَلْ نُحْسِنُ وَدَاعَ هذا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ؟ هَلْ نُضَاعِفُ الاجْتِهَادَ في هذهِ اللَّيَالِي المُتَبَقِّيَةِ؟

روى الإمام مسلم عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ.

وروى أَيضَاً عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ.

وروى الطَّبَرَانِيُّ في الأَوسَطِ عَن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرَ الأَوَاخِرَ من رَمَضَانَ، طَوَى فِرَاشَهُ، وَاعْتَزَلَ النِّسَاءَ، وَجَعَلَ عَشَاءَهُ سَحُورَاً.

اُطْلُبُوا لَيْلَةَ القَدْرِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، اُطْلُبُوا اللَّيْلَةَ العَظِيمَةَ، لَيْلَةَ العِتْقِ والمُبَاهَاةِ، لَيْلَةَ القُرْبِ والمُنَاجَاةِ، لَيْلَةَ القَدْرِ، لَيْلَةَ نُزُولِ القُرْآنِ، لَيْلَةَ الرَّحْمَةِ والغُفْرَانِ.

لَيْلَةٌ هيَ خَيْرٌ من أَلْفِ شَهْرٍ، لَيْلَةٌ مَن قَامَهَا إِيمَانَاً واحْتِسَابَاً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ، روى الإمام البخاري عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانَاً وَاحْتِسَابَاً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانَاً وَاحْتِسَابَاً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

يَا عِبَادَ اللهِ، يَا حَسْرَةً على مَن فَاتَتْهُ هذهِ اللَّيْلَةُ، ويَا أَسَفَى على مَن لَمْ يَجْتَهِدْ فِيهَا في اللَّيَالِي القَادِمَةِ، لِنَكُنْ مِمَّنْ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِم: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفَاً وَطَمَعَاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

اِرْفَعُوا عَنكُمُ التَّخَاصُمَ:

يَا عِبَادَ اللهِ، يَا أَهْلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ، لا يَسَعُنِي في هذهِ الأَزْمَةِ إلا أَنْ أُذَكِّرَ نَفْسِي وأُذَكِّرَكُم بالحَدِيثِ الصَّحِيحِ الذي رواه الإمام البخاري رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِن الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرَاً لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ».

وأُذَكِّرَكُم بَعْدَ نَفْسِي بالحَدِيثِ الصَّحِيحِ الذي رواه الإمام أحمد عَن الْحَسَنِ، أَنَّ أَسِيدَ بْنَ الْمُتَشَمِّسِ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ أَبِي مُوسَى مِنْ أَصْبَهَانَ، فَتَعَجَّلْنَا وَجَاءَتْ عُقَيْلَةُ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَلَا فَتَىً يُنْزِلُ كَنَّتَهُ ـ قَالَ: يَعْنِي أَمَةٌ الْأَشْعَرِيَّ ـ؟

فَقُلْتُ: بَلَى، فَأَدْنَيْتُهَا مِنْ شَجَرَةٍ، فَأَنْزَلْتُهَا ثُمَّ جِئْتُ فَقَعَدْتُ مَعَ الْقَوْمِ.

فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثَاً كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يُحَدِّثُنَاهُ؟

فَقُلْنَا: بَلَى يَرْحَمُكَ اللهُ.

قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا «أَنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ الْهَرْجَ».

قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟

قَالَ: «الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ».

قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ؟

قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْكُفَّارَ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضَاً، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ».

قَالُوا: سُبْحَانَ اللهِ! وَمَعَنَا عُقُولُنَا؟

قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكَ الزَّمَانِ، حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ».

وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ تُدْرِكَنِي وَإِيَّاكُمْ تِلْكَ الْأُمُورُ، وَمَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مِنْهَا مَخْرَجَاً فِيمَا عَهِدَ إِلَيْنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إِلَّا أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْنَاهَا لَمْ نُحْدِثْ فِيهَا شَيْئَاً.

يَا عِبَادَ اللهِ، اِرْفَعُوا عَنكُمُ التَّخَاصُمَ، وتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعَاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانَاً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، أَلَمْ يَأْنِ للغَافِلِينَ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا أَنْ يُدْرِكُوا حَقِيقَتَهَا؟

﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾؟

أَلَمْ تُدْرِكِ الأُمَّةُ قَوْلَ الإِمَامِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والذي نَفسِي بِيَدِهِ، لَقَد أَدْرَكْتُ أَقْوَامَاً كَانَتِ الدُّنيَا أَهْوَنَ عَلَيهِم من التُّرَابِ الذي يَمْشُونَ عَلَيهِ؟

وقَوْلَهُ: أَدْرَكْتُ أَقْوَامَاً كَانُوا لا يَفْرَحُونَ بِشَيْءٍ من الدُّنيَا أُوتُوهُ، ولا يَأَسُونَ على شَيْءٍ مِنهَا فَاتَهُمْ؟

أَلَمْ يَأْنِ لَنَا أَنْ نَلْتَزِمَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحَاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾؟

يَا عِبَادَ اللهِ، أَيَّامٌ قَلِيلَةٌ وتُطْوَى أَيَّامُ رَمَضَانَ بِأَعْمَالِ الأُمَّةِ، فَطُوبَى لِمَنْ ضَاعَفَ الجُهُودَ في العِبَادَةِ فِيهَا، وطُوبَى لِمَن الْتَمَسَ لَيْلَةَ القَدْرِ فِيهَا، وطُوبَى لِمَنْ رَفَعَ التَّخَاصُمَ بَيْنَهُ وبَيْنَ إِخْوَانِهِ، وطُوبَى لِمَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ من لِسَانِهِ ويَدِهِ، وطُوبَى لِمَنْ لَمْ يَقُلْ عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾. وطُوبَى لِمَنْ لَمْ يَقُلْ عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَينَا بِعَتْقِ رِقَابِنَا من النَّارِ. آمين.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 23/رمضان /1435هـ، الموافق: 10/ تموز/ 2015م