51ـ أشراط الساعة: تقارب الزمان

 

أشراط الساعة

51ـ  تقارب الزمان

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ التي حَدَّثَنَا عَنْهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَلَمَّا تَظْهَرْ بَعْدُ، تَقَارُبُ الزَّمَانِ، وَقَد وَقَعَ مَبَادِيهِ وَلَمْ يَسْتَحْكِمْ.

روى الشيخان عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ».

قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟

قَالَ: «الْقَتْلُ».

وفي رِوَايَةٍ للإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ ـ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ ـ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ».

تَقَارُبُ الزَّمَانِ:

أيُّها الإخوة الكرام: من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ أَنَّهُ يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، فَتَقْصُرُ مُدَّةُ الأَيَّامِ، على مَا رُوِيَ أَنَّ الزَّمَانَ يَتَقَارَبُ، حَتَّى تَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، والشَّهْرُ كَالجُمُعَةِ، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ (كَاحْتِرَاقِ وَرَقَةِ النَّخْلِ وَجَرِيدِهِ)».

أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم في مَعْنَى تَقَارُبِ الزَّمَانِ إلى عِدَّةِ أَقْوَالٍ:

القَوْلُ الأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ والقَاضِي عِيَاض: أَنَّ المُرَادَ بِذَلِكَ قِلَّةُ البَرَكَةِ في الزَّمَانِ، يَقُولُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قَد وُجِدَ في زَمَانِنَا هذا، فَإِنَّا نَجِدُ من سُرْعَةِ مَرِّ الأَيَّامِ مَا لَمْ نَكُنْ نَجِدُهُ في العَصْرِ الذي قَبْلَ عَصْرِنَا هذا.

القَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الخَطَّابِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أَنَّ المُرَادَ بِذَلِكَ مَا يَكُونُ في زَمَنِ المَهْدِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَزَمَنِ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَسْتَلِذُّونَ بالعَيْشِ، وَتَوَفُّرِ الأَمْنِ، وَانْتِشَارِ العَدْلِ، فَيَسْتَقْصِرُ النَّاسُ مُدَّةَ أَيَّامِ الرَّخَاءِ وَإِنْ طَالَتْ، وَتَطُولُ عَلَيْهِم مُدَّةُ الشِّدَّةِ والبُؤْسِ وَإِنْ قَصُرَتْ.

القَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الدَّاوُدِيُّ: أَنَّ المُرَادَ بِذَلِكَ تَقَارُبُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ، فَتَقْصُرُ سَاعَاتُ النَّهَارِ، قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَيَقْرُبُ النَّهَارُ من اللَّيْلِ.

القَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ المُرَادَ بِذَلِكَ، هُوَ تَقَارُبُ أَحْوَالِ أَهْلِهِ، في قِلَّةِ الدِّينِ، حَتَّى لا يَكُونُ فِيهِم مَن يَأْمُرُ بالمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَن المُنْكَرِ، لِغَلَبَةِ الفِسْقِ، وَظُهُورِ أَهْلِهِ.

القَوْلُ الخَامِسُ: أَنَّ المُرَادَ بِذَلِكَ تَقَارُبُ أَهْلِ الزَّمَانِ من طَيِّ الزَّمَانِ والمَسَافَاتِ، بِسَبَبِ وَفْرَةِ وَسَائِلِ المُوَاصَلاتِ والاتِّصَالاتِ، وَذَلِكَ بِتَقَدُّمِ وَتَطَوُّرِ الوَسَائِلِ.

أولاً: تَطَوُّرُ وَسَائِلِ النَّقْلِ البَرِّيِّ والجَوِّيِّ والبَحْرِيِّ، حَتَّى فَاقَ مِنْهَا سُرْعَةَ الصَّوْتِ، فَقَد كَانَ الإِنْسَانُ يَحْتَاجُ لِشَهْرٍ حَتَّى يَصِلَ مَكَّةَ من بِلادِ الشَّامِ، وَيَحْتَاجُ لِعَدَّةِ أَيَّامٍ لِيَصِلَ من المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ إلى مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، وَيَحْتَاجُ لِأَكْثَرَ من ذَلِكَ لِيَصِلَ إلى أَبْعَدَ، بَيْنَمَا الآنَ لا يَحْتَاجُ لِأَكْثَرَ من سَاعَاتٍ مَعْدُودَاتٍ لِيَصِلَ إلى أَقْصَى مَكَانٍ في المَعْمُورَةِ.

ثانياً: تَطَوُّرُ وَسَائِلِ الإِعْلامِ؛ من مَسْمُوعٍ وَمَرْئِيٍّ (إذاعة، تلفزيون، هاتف، انترنيت) فَصَارَتِ الأَخْبَارُ تُنْقَلُ من مَوَاقِعِ الحَدَثِ مُبَاشَرَةً، تُنْقَلُ الحُرُوبُ، والخِطَابَاتُ، والحَفَلاتُ، ...... مُبَاشَرَةً، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ في أَقْصَى بِلادِ العَالَمِ، بَلْ زَادَ الأَمْرُ بُعْدَاً عِنْدَمَا نَقَلَتِ الشَّاشَاتُ العَالَمِيَّةُ نُزُولَ الإِنْسَانِ على سَطْحِ القَمَرِ، ... إلخ، ومن هُنَا قِيلَ: العَالَمُ قَرْيَةٌ صَغِيرَةٌ.

القَوْلُ السَّادِسُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي جَمْرَةَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، أَنَّ المُرَادَ بِذَلِكَ، إِمَّا حِسِّيٌّ، وَإِمَّا مَعْنَوِيٌ.

أَمَّا الحِسِّيُّ فَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ، وَلَعَلَّهُ من الأُمُورِ التي تَكُونُ قُرْبَ قِيَامِ السَّاعَةِ.

وَأَمَّا المَعْنَوِيُّ، فَلَهُ مُدَّةٌ مُنْذُ ظَهَرَ، يَعْرِفُ ذَلِكَ أَهْلُ العِلْمِ في الدِّينِ، وَمَن لَهُ فِطْنَةٌ من أَهْلِ السَّبَبِ الدُّنْيَوِيِّ.

قُلْتُ: فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ نَزْعُ البَرَكَةِ، وَقِصَرُ الأَعْمَارِ، فهذا حَاصِلٌ في هذا الزَّمَانِ، بَلْ قَبْلَهُ بِكَثِيرٍ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلى حَدِّ مَا ذُكِرَ في الحَدِيثِ.

وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ القِصَرُ الزَّمَنِيُّ الحِسِّيُّ، فهذا لَمْ يَقَعْ بَعْدُ، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ في آخِرِ الزَّمَانِ.

القَوْلُ السَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أَنَّ المُرَادَ بِذَلِكَ تَسَاوِيِ النَّاسِ في الجَهْلِ، وَذَلِكَ بِتَرْكِ طَلَبِ العِلْمِ، والرِّضَا بالجَهْلِ، لِأَنَّ الأَصْلَ أَنَّهُم لا يَتَسَاوُونَ في العِلْمِ، فالعِلْمُ دَرَجَاتٌ، قَالَ تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾. وَإِنَّمَا يَتَسَاوَى النَّاسُ في الجَهْلِ، لِأَنَّهُ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: وَلَعَلَّ أَصَحَّ الأَقْوَالِ في مَعْنَى تَقَارُبِ الزَّمَانِ، هُوَ قِلَّةُ بَرَكَةِ الزَّمَانِ كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ». بِحَيْثُ تَمْضِي السَّنَةُ وَلَمْ تَفْعَلْ شَيْئَاً، وَلَمْ تُنْجِزْ عَمَلَاً يُذْكَرُ، وَكَأَنَّهَا شَهْرٌ؛ والشَّهْرُ تَقِلُّ بَرَكَتُهُ، فَيَصِيرُ كَالأُسْبُوعِ، والأُسْبُوعُ كَاليَوْمِ، واليَوْمُ كَالسَّاعَةِ، والسَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ الشَّمْعَةِ.

وهذا الأَمْرُ يَشْعُرُ بِهِ العُقَلاءُ من النَّاسِ، وَأَهْلُ العِلْمِ والفِطْنَةِ، وَأَصْحَابُ العُقُولِ الرَّاجِحَةِ، والأَذْهَانِ الصَّافِيَةِ، أَمَّا الفَسَقَةُ من النَّاسِ والجُهَّالُ مِنْهُم، وَأَصْحَابُ الهِمَمِ الدَّنِيئَةِ، وَأَصْحَابُ الشَّهَوَاتِ العَاجِلَةِ، فهؤلاءِ لا يَشْعُرُونَ بِشَيْءٍ، إِنْ هُمْ إلا كَالأَنْعَامِ، هَمُّ الوَاحِدِ مِنْهُم أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ من الطَّعَامِ والشَّرَابِ، وَيَسْتَمْتِعَ بِذَلِكَ.

أيُّها الإخوة الكرام: السَّبَبُ في قِلَّةِ البَرَكَةِ هُوَ ظُهُورُ المَعَاصِي والمُنْكَرَاتِ، وَخَاصَّةً أَكْلَ الرِّبَا، والرِّشْوَةِ، وَأَكْلَ مَالِ اليَتِيمِ ظُلْمَاً، وَأَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، وهذا هُوَ المُشَاهَدُ في وَاقِعِنَا المَرِيرِ، حَيْثُ صَدَقَ في وَاقِعِنَا حَدِيثُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَأْكُلُونَ الرِّبَا، فَمَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ» رواه النسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وَقِسْ على ذَلِكَ المَعَاصِيَ والمُنْكَرَاتِ التي تَفَشَّتْ في المُجْتَمَعِ من عُقُوقِ الوَالِدَيْنِ، وَسُوءِ تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَسَلْبِ الأَمْوَالِ، والظُّلْمِ الشَّدِيدِ؛ وإلى اللهِ تعالى المُشْتَكَى، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

**      **      **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 26/ربيع الأول /1437هـ، الموافق: 6/كانون الثاني / 2016م