48- مع الصحابة و آل البيت: من صفات أمير المؤمنين سيدنا علي رَضِيَ اللهُ عَنهُ التواضع(2)

.

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

48ـ من صفات أمير المؤمنين سيدنا علي رَضِيَ اللهُ عَنهُ التواضع(2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: العَجَبُ كُلُّ العَجَبِ فِيمَا لا يَتَوَاضَعُ وَقَدَ خَلَقَهُ اللهُ تعالى من نُطْفَةٍ مَذِرَةٍ، وآخِرُهُ يَعُودُ إلى جِيفَةٍ قَذِرَةٍ، العَجَبُ كُلُّ العَجَبِ فِيمَن لا يَتَوَاضَعُ وَهُوَ حَامِلُ العَذِرَةِ ـ أَجَلَّكُمُ اللهُ تعالى ـ.

إِنْ لَمْ يَكُنْ في التَّوَاضُعِ خَصْلَةٌ حَمِيدَةٌ إلا أَنَّهُ يَرْفَعُ العَبْدَ كُلَّمَا كَثُرَ تَوَاضُعُهُ لَكَفَى، روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلا فِي رَأْسِهِ حِكْمَةٌ (بِمَعْنَى القَدْرِ والمَنْزِلَةِ) بِيَدِ مَلَكٍ، فَإِذَا تَوَاضَعَ قِيلَ لِلْمَلَكِ: ارْفَعْ حِكْمَتَهُ (أَي: قَدْرَهُ وَمَنْزِلَتَهُ) وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلْمَلَكِ: ضَعْ حِكْمَتَهُ».

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: مَن فَقَدَ خُلُقَ التَّوَاضُعِ صَارَ مُتَكَبِّرَاً عَنِيدَاً صَلْدَاً، وَصَارَ كَفَاقِدِ العَقْلِ، وَصَارَ مُعْجَبَاً بِنَفْسِهِ، وَبِذَلِكَ يَرْفَعُ الخَسِيسَ، وَيَخْفِضُ النَّفِيسَ، مَثَلُهُ مَثَلُ البَحْرِ الخِضَمِّ، يَسْتَقِرُّ في مَقَرِّهِ الجَوْهَرُ والدُّرُّ وَكُلُّ نَفِيسٍ، وَيَطْفُو فَوْقَهُ الزَّبَدُ والخَشَاشُ والحَشَاشُ.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: فَاقِدُ التَّوَاضُعِ عَدِيمُ الإِحْسَاسِ، فِاقِدُ المَشَاعِرَ، شَقِيٌّ لا يَتَّعِظُ بِغَيْرِهِ، غَيْرُ مُـسْتَحْضِرٍ أَنَّ مَوْطِئَهُ وَطِئَتْهُ قَبْلَهُ آلافُ الأَقْدَامِ، وَأَنَّ مَنْ بَعْدَهُ في الانْتِظَارِ، وَمَا رُؤِيَ أَحَدٌ تَرَكَ التَّوَاضُعَ وَتَرَفَّعَ على الخَلْقِ إلا ابْتِلاهُ اللهُ تعالى بالذِّلَّةِ لِمَنْ فَوْقَهُ.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: روى الإمام مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبَاً فَقَالَ: «وَإِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ».

وَيَقُولُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: وَجَدْنَا الكَرَمَ في التَّقْوَى، والغِنَى في اليَقِينِ، والشَّرَفَ في التَّوَاضُعِ.

مُعَامَلَةُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ لِعَمِّهِ العَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: من خِلالِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ السَّابِقِ، وَكَلامِ الصِّدِّيقِ، كَانَ خُلُقُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، كَانَ قِمَّةً في التَّوَاضُعِ.

روى الإمام البخاري في الأَدَبِ المُفْرَدِ عَن صُهَيْبٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيَّاً يُقَبِّلُ يَدَ العَبَّاسِ وَرِجْلَيْهِ. اهـ.

وَكَانَ يَقُولُ لَهُ: يَا عَمُّ، ارْضَ عَنِّي.

حُكْمُ تَقْبِيلِ اليَدِ:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: إِنَّ تَقْبِيلَ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَدَ سَيِّدِنَا العَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ صُورَةٌ من صُوَرِ تَوَاضُعِهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مَعَ جَلالَةِ قَدْرِهِ، وَعِظَمِ هَيْبَتِهِ.

وهذا مَا شَاهَدَهُ من الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، عِنْدَمَا كَانُوا يُقَبِّلُونَ يَدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: كُنْتُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً (أَيْ: جَالُوا جَوْلَةً يَطْلُبُونَ الْفِرَارَ) وَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ، فَقُلْنَا: كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِن الزَّحْفِ، وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ؟

ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ دَخَلْنَا الْـمَدِينَةَ فَبِتْنَا.

ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ تَوْبَةٌ، وَإِلَّا ذَهَبْنَا فَأَتَيْنَاهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ.

فَخَرَجَ فَقَالَ: «مَن الْقَوْمُ؟».

قَالَ: فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ.

قَالَ: «لَا، بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ (أَيْ: أَنْتُمُ الْعَائِدُونَ إِلَى الْقِتَالِ وَالْعَاطِفُونَ) أَنَا فِئَتُكُمْ، وَأَنَا فِئَةُ الْـمُسْلِمِينَ».

قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ حَتَّى قَبَّلْنَا يَدَهُ.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: تَقْبِيلُ اليَدِ جَائِزٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزَاً لَمَا صَدَرَ من الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، جَاءَ في كِتَابِ الشِّفَا: صَلَّى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ على جِنَازَةٍ، ثمَّ قُرِّبَتْ لَهُ بَغْلَتُهُ لِيَرْكَبَهَا، فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما فَأَخَذَ بِرِكَابِهِ.

فَقَالَ زَيْدٌ: خَلِّ عَنْهُ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ.

فَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بَعُلَمَائِنَا وَكُبَرَائِنَا.

فَقَبَّلَ زَيْدٌ يَدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا.

وروى الإمام البخاري في الأَدَبِ المُفْرَدِ، عَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَزِينٍ قَالَ: مَرَرْنَا بِالرَّبَذَةِ، فَقِيلَ لنا: هَاهُنَا سَلَمَةُُ بْنُ الأَكْوَعِ، فَأَتَيتُهُ فَسَلَّمْنَاعَلَيهِ، فَأَخْرَجَ يَدَيهِ فَقَالَ: بَايَعْتُ بِهَاتَينِ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَأَخْرَجَ كَفَّاً لَهُ ضَخْمَةً، كَأَنَّهَا كَفُ بَعِيرٍ، فَقُمْنَا إِلَيهَا فَقَبَّلْنَاهَا.

ورَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

قَبِّلْ يَدَ الخِيَرَةِ أَهْلِ التُّقَى   ***   وَلَا تَخَفْ طَعْنَ أَعَادِيهِم

رَيْحَانَـةُ الـرَّحْـمَنِ عُبَّادُهُ   ***   وَشَـمُّـهَـا لَـثْـمُ أَيَادِيهِم

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: مَا أَجْمَلَ خُلُقَ التَّوَاضُعِ، وَمَا أَقْبَحَ التَّكَبُّرَ والاسْتِعْلاءَ، يَقُولُ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: تَوَاضُعُ المَرْءِ يُكْرِمُهُ.

وَيَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: مَا أَحْسَنَ تَوَاضُعَ الغَنِيِّ للفَقِيرِ رَغْبَةً في ثَوَابِ اللهِ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ تِيهُ الفَقِيرِ على الغَنِيِّ ثِقَةً باللهِ عزَّ وجلَّ. اهـ.

والمَقْصُودُ بالتِّيهِ: الاسْتِغْنَاءُ باللهِ عزَّ وجلَّ عَمَّا في أَيْدِي الأَغْنِيَاءِ، ولا يَعْنِي التَّكَبُّرَ والغُرُورَ؛ وَمَا صَحَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ: التَّكَبُّرُ على المُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ المُؤْمِنَ لا يَعْـصِي اللهَ تعالى فِيمَنْ عَـصَى اللهَ فِيهِ؛ وَدَوَاءُ المُتَكَبِّرِ النُّصْحُ لَهُ، لا التَّكَبُّرُ عَلَيْهِ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد رُفِعَ آلُ بَيْتِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخُلُقِ التَّوَاضُعِ، وَذَلِكَ تَحْقِيقَاً لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَوَاضَعَ للهِ دَرَجَةً، رَفَعَهُ اللهُ دَرَجَةً، حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي عِلِّيِّينَ، وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللهِ دَرَجَةً، وَضَعَهُ اللهُ دَرَجَةً، حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وَتَحْقِيقَاً لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: طُوبَى للمُتَواضِعِينَ في الدُّنْيَا، هُم أَصْحَابُ المَنَابِرِ يَوْمَ القِيَامَةِ، طُوبَى للمُصْلِحِينَ بَيْنَ النَّاسِ في الدُّنْيَا، هُمُ الذينَ يُورَثُونَ الفِرْدَوْسَ يَوْمَ القِيَامَةِ، طُوبَى للمُطَهَّرَةِ قُلُوبُهُم في الدُّنْيَا، هُمُ الذينَ يَنْظُرُونَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ.

وَتَقُولُ أُمُّنَا السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنها: تُغْفِلُونَ أَفْضَلَ عِبَادَةٍ: التَّوَاضُعَ.

وَيُبَيِّنُ ابْنُ المُبَارَكِ حَقِيقَةَ التَّوَاضُعِ فَيَقُولُ: رَأْسُ التَّوَاضُعِ أَنْ تَضَعَ نَفْسَكَ عِنْدَ مَن دُونَكَ في نِعْمَةِ الدُّنْيَا حَتَّى تُعْلِمَهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِدُنْيَاكَ عَلَيْهِ فَضْلٌ، وَأَنْ تَرْفَعَ نَفْسَكَ عَمَّنْ هُوَ فَوْقَكَ في الدُّنْيَا حَتَّى تُعْلِمَهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ بِدُنْيَاهُ عَلَيْكَ فَضْلٌ.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: التَّوَاضُعُ خُلُقٌ كَرِيمٌ من أَخْلاقِ آلِ بَيْتِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ طَرِيقٌ مُوصِلَةٌ إلى مَرْضَاةِ اللهِ تعالى وَإلى جَنَّتِهِ، وَهُوَ السَّبِيلُ إلى القُرْبِ من اللهِ تعالى، ثمَّ القُرْبِ من النَّاسِ.

التَّوَاضُعُ عُنْوَانُ سَعَادَةِ العَبْدِ في الدَّارَيْنِ، واللهُ تعالى يُحِبُّ المُتَوَاضِعِينَ، وَيَكْلَؤُهُم بِرِعَايَتِهِ، وَيُحِيطُهُم بِلُطْفِهِ وَعِنَايَتِهِ، والمُتَوَاضِعُونَ هُمُ الآمِنُونَ من عَذَابِ اللهِ تعالى يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ.

اللَّهُمَّ أَلْحِقْنَا بالمُتَوَاضِعِينَ من آلِ بَيْتِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**        **      **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 4/ ربيع الثاني /1437هـ، الموافق: 13/كانون الثاني / 2015م