49ـ مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم: كرم وجود الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

.

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

49ـ كرم وجود الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: من الأَخْلاقِ الكَرِيمَةِ التي تَجَسَّدَتْ في شَخْصِيَّةِ أَصحَابِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَمَ وَفِي آلِ البَيتِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم خُلُقُ الكَرَمِ والجُودِ، لِأَنَّهُم كَانَوا مُتَفَاعِلينَ مَعَ القُرْآنِ العَظِيمِ الذي حَرَّضَ الأُمَّةَ على الجُودِ والكَرَمِ، وَذَلِكَ من خِلالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾. وَقَوْلِهِ تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ واللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ واللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.

كَانَوا مُتَفَاعِلينَ مَعَ حَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ كَانَ يُحَرِّضُ الأُمَّةَ على الجُودِ والكَرَمِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقَاً خَلَفَاً، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكَاً تَلَفَاً».

وَكَانَوا رَضِيَ اللهُ عَنهُم مُتَفَاعِلينَ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي كَانَ أَجْوَدَ من الرِّيحِ المُرْسَلَةِ، قَبْلَ الرِّسَالَةِ ، كَمَا وَصَفَتْهُ أُمُّنَا السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنها بِقَوْلِهَا: «إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ (أَيْ: تُعيْنُ العَاجِزَ الضَّعيْفَ حَتَّى تَسُدَّ حَاجَتَهُ كَاليَتِيْمِ وَابنِ السَّبِيْلِ وَصَاحِبِ الحَاجَةِ؛وَعَبَّرَتْ رَضِيَ اللهُ عَنهَا بِالَحملِ عَن كَمالِ الُمسَاعَدَةِ) وَتَكْسِبُ الْـمَعْدُومَ (أَيْ: تَهَبُ الُمعْدَمَ الفَقِيرَ مَا يُخرِجُهُ مِن فَقْرِهِ وَعِوَزِهِ) وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» رواه الشيخان.

وَكَانَوا رَضِيَ اللهُ عَنهُم مُتَأَثِّرَينَ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي كَانَ جواداً كريماً قَبْلَ الرِّسَالَةِ، أَمَّا بَعْدَ الرِّسَالَةِ فَحَدِّثْ بِدُونِ حَرَجٍ عَن جُودِهِ وَكَرَمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ، لِأَنَّ النُّبُوَّةَ أَضْفَتْ عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ في كَمَالِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ بَلَغَ الذُّرْوَةَ في كَرَمِ الأَنْبِيَاءِ وَسَائِرِ البَشَرِ.

حُلَّةٌ وَمِائَةُ دِينَارٍ؟

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: مَن قَدَّمَ خَيْرَاً فَإِنَّمَا يُقَدِّمُهُ لِنَفْسِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرَاً وَأَعْظَمَ أَجْرَاً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرَاً﴾.

مَا أَحْسَنَ الخَيْرَ وَالَجميلَ الَّذي يُقَدِّمُهُ الإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ، وَمَا أَحْسَنَ الجَمِيلَ، يَقُولُ سَيِّدِنَا عَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ِ: مَا أَحْسَنَ الجَمِيلَ ، واللهِ لَو كَانَ الجَمِيلُ رَجُلَاً لَكَانَ حَسَنَاً، وَمَا أَقْبَحَ القَبِيحَ، واللهِ لَو كَانَ القَبِيحُ واللُّؤْمُ رَجُلَاً لَكَانَ قَبِيحَاً.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَن أَصْبَغَ بْنِ نَبَاتَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَد رَفَعْتُهَا إلى اللهِ قَبْلَ أَنْ أَرْفَعَهَا إِلَيْكَ، فَإِنْ أَنْتَ قَضَيْتَهَا حَمِدْتُ اللهَ وَشَكَرْتُكَ، وَإِنْ لَمْ تَقْضِهَا حَمِدْتُ اللهَ وَعَذَرْتُكَ.

فَقَالَ عَلِيٌّ: اكْتُبْ على الأَرْضِ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَرَى ذُلَّ السُّؤَالِ في وَجْهِكَ.

فَكَتَبَ إِنِّي مُحْتَاجٌ.

فَقَالَ: عَلَيَّ بِحُلَّةٍ، فَأُتِيَ بِهَا، فَأَخَذَهَا الرَّجُلُ.

فَلَبِسَهَا ثمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:

كَـسَـوْتَـنِـي حُـلَّـةً تَـبْلَى مَحَاسِنُهَا    ***   فَسَوْفَ أَكْسُوكَ من حُسْنِ الثَّنَا حُلَلَا

إِنْ نِلْتَ حُسْنَ ثَنَائِي نِلْتَ مَكْرُمَةً    ***   وَلَـسْتُ أَبْـغِي  بِـمَا قَـد قُـلْـتُـهُ بَـدَلَا

إِنَّ الثَّنَاءَ لَـيُحْيِى ذِكْـرَ صَـاحِـبِـهِ    ***   كَالغَيْثِ يُحْيِى نَـدَاهُ الـسَّـهْلَ والجَبَلَا

لا تَزْهَدِ الـدَّهْـرَ في خَـيْرٍ تُـوَافِـقُه   ***   فَكُلُّ عَـبْـدٍ سَـيُـجْزَى بالـذي عَمِلَا

فَقَالَ عَلِيٌّ: عَلَيَّ بالدَّنَانِيرِ، فَأُتِيَ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ.

قَالَ الأَصْبَغُ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، حُلَّةٌ وَمِائَةُ دِينَارٍ؟

قَالَ: نَعَم، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُم» رواه أبو داود. وَهَذِهِ مَنْزِلَةُ هذا الرَّجُلِ عِنْدِي.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: انْظُرُوا إلى خُلُقِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ إِضَافَةً إلى جُودِهِ وَكَرَمِهِ، أَنَّهُ قَالَ للسَّائِلِ: اكْتُبْ حَاجَتَكَ على الأَرْضِ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَرَى ذُلَّ السُّؤَالِ في وَجْهِكَ.

كَمْ يُعَانِي أَصْحَابُ الحَاجَاتِ من الذُّلِّ بَيْنَ يَدَيْ مَن يَسْأَلُونَهُم حَوَائِجَهُم، تَرَاهُم يَتَلَعْثَمُونَ حَتَّى يَكَادُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ النُّطْقَ؛ لَقَد كَانَتْ مَشَاعِرُ ذَلِكَ المُحْتَاجِ عَظِيمَةً حِينَمَا وَاجَهَهُ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بهذهِ المُعَامَلَةِ السَّامِيَةِ.

فَرَحُ سَيِّدِنَا عَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بالضُّيُوفِ:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: لَـمَّا كَانَ إِكْرَامُ الضَّيْفِ من شُعَبِ الإِيمَانِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ».

قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ؛ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرَاً أَوْ لِيَصْمُتْ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

رَأَيْنَا سَيِّدَنَا عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنهُ كَانَ يَفْرَحُ بِقُدُومِ الضَّيْفِ، وَإِذَا لَمْ يَأْتِهِ ضَيْفٌ أَيَّامَاً خَافَ، وَقَالَ: لَمْ يَأْتِنِي ضَيْفٌ مُنْذُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، أَخَافُ أَنْ يَكُونَ اللهُ قَدْ أَهَانَنِي.

وَيَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: لَعِشْرُونَ دِرْهَمَاً أُعْطِيهَا أَخِي في اللهِ عزَّ وجلَّ أَحَبُّ إِلَيَّ من أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ على المَسَاكِينِ.

وَعِنْدَمَا سُئِلَ عَن السَّخَاءِ، قَالَ: مَا كَانَ مِنْهُ ابْتِدَاءً، فَأَمَّا مَا كَانَ من مَسْأَلَةٍ فَحَيَاءٌ وَتَكَرُّمٌ.

أَوْقَافُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: لَقَد كَانَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ جَوَادَاً كَرِيمَاً، فَقَد جَعَلَ في حَيَاتِهِ أَوْقَافَاً للهِ تعالى، حَيْثُ جَعَلَ أَرْضَهُ يَنْبِعَ وَقْفَاً، وَكَتَبَ فِيهَا كِتَابَاً:

(هَذَا مَا أَقَرَّ بِهِ وَقَضَى في مَالِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، تَصَدَّقَ بِيَنْبِعَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ، لِيُولِجَنِي الجَنَّةَ، وَيَصْرِفَ النَّارَ عَنِّي، وَيَصْرِفَنِي عن النَّارِ، فَهِيَ في سَبِيلِ اللهِ وَوَجْهِهِ، يُنْفَقُ في كُلِّ نَفَقَةٍ من سَبِيلِ اللهِ وَوَجْهِهِ، في الحَرْبِ والسِّلْمِ، والخَيْرِ وَذَوِي الرَّحِمِ، والقَرِيبِ والبَعِيدِ، لا يُبَاعُ، ولا يُوهَبُ، ولا يُورَثُ، كُلُّ مَالٍ في يَنْبِعَ).

مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: هَكَذَا كَانَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وَهَكَذَا كَانَ آلُ بَيتِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذينَ تَرَبَّوْا على الزُّهْدِ في الدُّنْيَا، وَكَثْرَةِ الإِنْفَاقِ في سَبِيلِ اللهِ، جُودَاً وَكَرَمَاً.

جَاءَ في كِتَابِ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ، تَسَابَقَ المُسْلِمُونَ في إِنْفَاقِ الأَمْوَالِ وَبَذْلِ الصَّدَقَاتِ، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ قَد جَهَّزَ عِيرَاً للشَّامِ، مِائَتَا بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا وَأَحْلَاسِهَا، وَمِائَتَا أُوقِيَةٍ، فَتَصَدَّقَ بِهَا، ثمَّ تَصَدَّقَ بِمِائَةِ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا، ثمَّ جَاءَ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَنَثَرَهَا في حِجْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّبُهَا فِي حِجْرِهِ وَيَقُولُ: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ».

ثمَّ تَصَدَّقَ وَتَصَدَّقَ، حَتَّى بَلَغَ مِقْدَارُ صَدَقَتِهِ تِسْعُمَائَةَ بَعِيرٍ وَمِائَةَ فَرَسٍ سِوَى النُّقُودِ.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: لَقَد نَمَّى الإِيمَانُ في نُفُوسِ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ البَيْتِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم حُبَّ البَذْلِ والعَطَاءِ، والجُودِ والسَّخَاءِ، إلى دَرَجَةِ أَنْ يَنْخَلِعَ بَعْضُهُم من مَالِهِ كُلِّهِ للهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

اخْرُجِي، فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: صُورَةٌ أُخْرَى من صُوَرِ الإِنْفَاقِ عِنْدَ النُّفُوسِ المُؤْمِنَةِ باللهِ، المُطْمَئِنَّةِ بِمَوْعُودِ اللهِ تعالى.

قَالَ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: لَـمَّا نَزَلَتْ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضَاً حَسَنَاً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾. قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ يُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟

قَالَ: «نَعَمْ، يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ».

قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي، وَفِي حَائِطِي سِتَّ مِائَةٍ نَخْلَةٍ.

ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْحَائِطِ فَنَادَى: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، وَهِيَ فِي الْحَائِطِ.

فَقَالَتْ: لَبَّيْكَ.

فَقَالَ: اخْرُجِي، فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي. رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: هَكَذَا يَصْنَعُ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ، فَيُرَبِّي صَاحِبَهُ على الخَيْرِ والفَضِيلَةِ، وَيُجَمِّلُهُ بالأَخْلاقِ الحَمِيدَةِ، والآدَابِ المَجِيدَةِ، فَيَجْعَلُهُ يَعْمَلُ لِآخِرَتِهِ ولا يَنْسَى نَصِيبَهُ من الدُّنْيَا.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: من المُحَالِ دَوَامُ الحَالِ، لَقَد كَانَ سَيِّدُنَا عَليٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَرْبِطُ الحَجَرَ على بَطْنِهِ من شِدَّةِ الجُوعِ، وَعِنْدَمَا وَسَّعَ اللهُ تعالى عَلَيْهِ كَانَ جَوَادَاً كَرِيمَاً، يَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَأَرْبِطُ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِن الْجُوعِ، وَإِنَّ صَدَقَتِي الْيَوْمَ لَأَرْبَعُونَ أَلْفَاً. رواه الإمام أحمد.

نَعَم، إِنَّهَا صَدَقَةٌ وَلَيْسَتْ زَكَاةً، لِأَنَّ وَلَدَهُ سَيِّدَنَا الحَسَنَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ بَعْدَ مَقْتَلِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: لَقَدْ فَارَقَكُمْ رَجُلٌ بِالْأَمْسِ مَا سَبَقَهُ الْأَوَّلُونَ بِعِلْمٍ، وَلَا أَدْرَكَهُ الْآخِرُونَ، إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَيَبْعَثُهُ وَيُعْطِيهِ الرَّايَةَ فَلَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ، وَمَا تَرَكَ مِنْ صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ، إِلَّا سَبْعَ مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ عَطَائِهِ، كَانَ يَرْصُدُهَا لِخَادِمٍ لِأَهْلِهِ. رواه الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ حُبْشِيٍّ.

وَلَقَد كَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَحُثُّ على إِكْرَامِ العَشِيرَةِ والأَهْلِ، فَيَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: أَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ، فَإِنَّهُم جَنَاحُكَ الذي بِهِ تَطِيرُ، فَإِنَّكَ بِهِم تَصُولُ وَبِهِم تَطُولُ وَهُمُ العُدَّةُ عِنْدَ الشِّدَّةِ، أَكْرِمْ كَرِيمَهُم وَعُدْ سَقِيمَهُم، وَأَشْرِكْهُم في أُمُورِكَ، وَيَسِّرْ عَن مُعْسِرِهِم.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: الجُودُ والكَرَمُ هُوَ شَأْنُ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ العَاقِلِ الكَيِّسِ الفَطِنِ، الذي سَمِعَ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ (المُهْرُ) حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وَمَن كَانَ مَحْرُومَاً من نِعْمَةِ المَالِ، وَكَانَ مُحِبَّاً للصَّدَقَةِ، وَصَادِقَاً في نِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ يَبْلُغُ مَبْلَغَ العَامِلِينَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامَاً، مَا سِرْتُمْ مَسِيرَاً، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيَاً، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهُمْ بِالْـمَدِينَةِ؟

قَالَ: «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَالَ في حَقِّ مَنْ لَمْ يَجِدِ المَالَ، وَنَوَى أَنْ يَتَصَدَّقَ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ مِثْلَ مَا يَتَصَدَّقُ أَهْلُ الدُّثُورِ: «فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ» رواه الترمذي عَن أَبِي كَبْشَةَ الْأَنَّمَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

اللَّهُمَّ أَخْرِجْ من قُلُوبِنَا حُبَّ الدُّنْيَا. آمين.

**        **      **

تاريخ الكلمة:

الخميس:8 1/ ربيع الثاني /1437هـ، الموافق: 28/كانون الثاني / 2015م