50ـمع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم: خلق الحياء

.

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

50ـ خلق الحياء

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: الحَيَاءُ من أَجَلِّ مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ على طَهَارَةِ النَّفْسِ، وَحَيَاةِ الضَّمِيرِ، وَيَقَظَةِ الوَازِعِ الدِّينِيِّ، الحَيَاءُ من أَجَلِّ مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ على مُرَاقَبَةِ اللهِ تعالى.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: خُلُقُ الحَيَاءِ هُوَ إِحْسَاسٌ رَقِيقٌ، وَشُعُورٌ في نَفْسِ المُؤْمِنِ دَقِيقٌ، يَظْهَرُ أَثَرُهُ في الوَجْهِ، وَمَظْهَرُهُ في العَيْنِ، مَنْ أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِهِ فَقَد أَعْطَاهُ الخَيْرَ كُلَّهُ، وَمَنْ جَمَّلَهُ اللهُ تعالى بِهِ تَحَلَّى بالعِزَّةِ والكَرَامَةِ، وَمَنْ حُرِمَهُ فَقَد حُرِمَ الخَيْرَ كُلَّهُ.

خُلُقُ الحَيَاءِ أَصْلٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَهُوَ من أَفْضَلِ وَأَجَلِّ الأَخْلاقِ، وَأَعْظَمِهَا قَدْرَاً، وَأَكْثَرِهَا نَفْعَاً، وَهُوَ خَاصَّةٌ من خَصَائِصِ الإِنْسَانِ السَّوِيِّ المُسْتَقِيمِ، وَمَنْ حُرِمَ هذا الخُلُقَ حُرِمَ مَعْنَى الإِنْسَانِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا إلا الصُّورَةَ فَقَط، فَتَكُونُ صُورَتُهُ صُورَةَ إِنْسَانٍ، وَدَاخِلِيَّتُهُ دَاخِلِيَّةُ الحَيَوَانِ.

بِخُلُقِ الحَيَاءِ تُؤَدَّى حُقُوقُ اللهِ تعالى، وَحُقُوقُ العِبَادِ، وَبِهِ تُوصَلُ الرَّحِمِ، وَيُبَرُّ الوَالدَانِ، وَيُحْسَنُ إلى الزَّوْجِ، وَيُكْرَمُ الضَّيْفُ، وَيُوَفَّى بالعَهْدِ والوَعْدِ، وَبهِ تُؤَدَّى الأَمَانَةُ، وَيُتَحَرَّى كُلُّ صِفَاتِ الكَمَالِ.

وَلَوْلا خُلُقُ الحَيَاءِ لَمْ يَفْعَلِ الإِنْسَانُ شَيْئَاً من مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، فَالحَيَاءُ هُوَ الحَيَاةُ، وَمَنْ لا حَيَاءَ فِيهِ فَهُوَ والمَيْتُ سَوَاءٌ.

حَيَاءُ آلِ البَيْتِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: لَقَد تَرَبَّى آلُ بَيْتِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على خُلُقِ الحَيَاءِ، وَذَلِكَ من خِلالِ هَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ومن خِلالِ سِيرَتِهِ العَطِرَةِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَشَدَّ حَيَاءً من العَذْرَاءِ في خِدْرِهَا.

هذا سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، يَطْلُبُ من المِقْدَادِ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَن المَذْيِ، وَذَلِكَ حَيَاءً مِنْهُ لِمَكَانَةِ السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها التي هِيَ ابْنَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى الإمام مسلم عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كُنْتُ رَجُلَاً مَذَّاءً، وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ.

فَقَالَ: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ».

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: لَقَد كَانَتِ العَرَبُ في جَاهِلِيَّتِهِم يَأْنَفُونَ وَيَسْتَحْيُونَ وَيَكْرَهُونَ أَنْ يُتَحَدَّثَ بِـشَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بالنِّساءِ بِحَضْرَةِ أَحَدٍ من أَقَارِبِ المَرْأَةِ، فَأَيْنَ خُلُقُ الحَيَاءِ في الأُمَّةِ اليَوْمَ؟

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: يَقُولُ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: إِنِّي لَأَسْتَحْيِي من اللهِ أَنْ يَكُونَ ذَنْبٌ أَعْظَمَ من عَفْوِي، أَوْ جَهْلٌ أَعْظَمَ مِنْ حِلْمِي، أَوْ عَوْرَةٌ لا يُوَارِيهَا سِتْرِي، أَوْ خُلَّةٌ لا يَسُدُّهَا جُودِي.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: هذهِ أَرْبَعُ صِفَاتٍ من النَّقْصِ قَابلَهُنَّ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ من الكَمَالِ.

فَالحَيَاءُ من اللهِ عزَّ وجلَّ يَقْتَضِي من الإِنْسَانِ أَنْ يَتَّصِفَ بالعَفْوِ عِنْدَ المَقْدِرَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الذَّنْبُ فِيهِ حَدٌّ من حُدُودِ اللهِ تعالى.

وَأَنْ يَتَّصِفَ بالعِلْمِ الذي يَحْتَوِي جَهْلَ الجَاهِلِينَ.

وَأَنْ يَكُونَ سَتَّارَاً لِعُيُوبِ النَّاسِ.

وَأَنْ يَتَّسِعَ كَرَمُهُ لِسَدِّ حَاجَةِ مَن احْتَاجَ إِلَيْهِ.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ رَبَطَ هذهِ الأُمُورَ بالحَيَاءِ من اللهِ تعالى، لِأَنَّ هَدَفَهُ الأَعْلَى هُوَ ابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، لا لِيَنَالَ سُمْعَةً دُنْيَوِيَّةً، أَوْ غَرَضَاً دُنْيَوِيَّاً.

حَيَاءُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم:

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: كَمَا تَرَبَّى آلُ بَيْتِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على خُلُقِ الحَيَاءِ، كَذَلِكَ تَرَبَّى أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على هذا الخُلُقِ، وَذَلِكَ من خِلالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقَاً، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ».

ومن خِلالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَحْيُوا مِن اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ للهِ.

قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِن اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ الْـمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَد اسْتَحْيَا مِن اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

ومن خِلالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِن الْإِيمَانِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أيُّها الإِخوِةُ الكِرَامُ: روى البيهقي عَن قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ خَلاَّدٍ، وَهِيَ مُتَنَقِّبَةٌ، تَسْأَلُ عَنِ ابْنِهَا وَهُوَ مَقْتُولٌ.

فَقَالَ لَهَا بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: جِئْتِ تَسْأَلِينَ عَنِ ابْنِكِ وَأَنْتِ مُتَنَقِّبَةٌ؟

فَقَالَتْ: إِنْ أُرْزَأَ ابْنِي فَلَنْ أُرْزَأَ حَيَائِي.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ابْنُكِ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ».

قَالَتْ: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «لأَنَّهُ قَتَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ».

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: إنِّي لَأَغْتَسِلُ فِي الْبَيْتِ الْـمُظْلِمِ، فَأَحْنِي ظَهْرِي إذَا أَخَذْت ثَوْبِي، حَيَاءً مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ.

وَعَنْهُ أَيْضَاً قَالَ: مَا أَقَمْتُ صُلْبِي فِي غُسْلِي مُنْذُ أَسْلَمْتُ.

وَرَأَى أَبُو مُوسَى قَوْمَاً يَقِفُونَ في المَاءِ بِغَيْرِ أُزُرٍ، فَقَالَ: لَأَنْ أَمُوتَ ثمَّ أُنْشَرَ، ثمَّ أَمُوتَ ثمَّ أُنْشَرَ، ثمَّ أَمُوتَ ثمَّ أُنْشَرَ، أَحَبَّ إِلَيَّ من أَنْ أَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَتَعَلَّمْ خُلُقَ الحَيَاءِ من آلِ بَيْتِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ومن الصَّحْبِ الكِرَامِ، بَعْدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فلْنَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، فلا نَنْظُرْ بِأَعْيُنِنَا إلى مَا يُغْضِبُ رَبَّنَا عزَّ وجلَّ، ولا نَسْمَعْ بِآذَانِنَا مَا يُغْضِبُ رَبَّنَا عزَّ وجلَّ، ولا نَنْطُقْ بِأَلْسِنَتِنَا مَا يُغْضِبُ رَبَّنَا عزَّ وجلَّ، وَلْنَعْلَمْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولَاً﴾.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حَقَّ الحَيَاءِ مِنْكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**        **      **

تاريخ الكلمة:

الخميس:25/ ربيع الثاني /1437هـ، الموافق: 4/شباط / 2016م