119-نحو أسرة مسلمة:الاستخارة قبل عقد الزواج

.

نحو أسرة مسلمة

119ـ الاستخارة قبل عقد الزواج

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَد كَانَ من هَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوصِيَ الأُمَّةَ بالاسْتِخَارَةِ في جَمِيعِ أُمُورِهَا، لِأَنَّنَا عَاجِزُونَ عَن إِدْرَاكِ جَوَانِبِ الخَيْرِ في المُسْتَقْبَلِ، فَقَد نَرْفُضُ اليَوْمَ أَمْرَاً قَد يُسْعِدُنَا غَدَاً، وَقَد نَتَحَمَّسُ لِأَمْرٍ ولا نَضْمَنُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا، لِذَلِكَ عَلَّمَنَا سَيِّدُنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الاسْتِخَارَةَ التي نَلْجَأُ إِلَيْهَا، وَلْنَكُنْ على ثِقَةٍ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى هُوَ العَلِيمُ وَحْدَهُ بِمَا تَحْمِلُهُ لَنَا الأَيَّامُ في طَيَّاتِهَا، لِأَنَّهَا من قَدَرِهِ وَقَضَائِهِ تَبَارَكَ وتعالى.

الاسْتِخَارَةُ قَبْلَ عَقْدِ الزَّوَاجِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: إِذَا اخْتَارَ الشَّابُّ صَاحِبَةَ الدِّينِ والخُلُقِ من الأُسْرَةِ الصَّالِحَةِ، وَإِذَا وَافَقَ وَلِيُّ الفَتَاةِ على صَاحِبِ الدِّينِ والخُلُقِ الذي تَقَدَّمَ من خِطْبَةِ ابْنَتِهِ، وَبَعْدَ سُؤَالِ كُلٍّ من الفَرِيقَيْنِ عَن الآخَرِ، وَبَعْدَ الاسْتِشَارَةِ، يَتَوَجَّهُ كُلٌّ من الخَاطِبِ وَالمَخْطُوبَةِ إلى صَلاةِ الاسْتِخَارَةِ، لما رواه الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَابَ مَن اسْتَخَارَ، ولا نَدِمَ مَن اسْتَشَارَ، ولا عَالَ ـ افْتَقَرَ ـ مَن اقْتَصَدَ».

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: الاسْتِخارَةُ بَعْدَ الاسْتِشَارَةِ مَطْلُوبَةٌ، والاقْتِصَارُ على وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نَقْصٌ، والكَمَالُ في الأَخْذِ بِهِمَا، لِأَنَّهُمَا سَبَبَانِ يَأْخُذُ بِهِمَا العَبْدُ المُؤْمِنُ.

لا بُدَّ أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ من الاسْتِشَارَةِ، لِأَنَّهَا سَبَبٌ يَجِبُ الأَخْذُ بِهَا، روى الترمذي عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟

قَالَ: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ».

ثمَّ بَعْدَ الاسْتِشَارَةِ تَكُونُ الاسْتِخَارَةُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ إلى اللهِ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللهِ» رواه الحاكم عَن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: نَأْخُذُ بالأسْبَابِ كَأَنَّهَا كُلُّ شَيْءٍ، ثمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَبْرَأُ إلى اللهِ تعالى من حَوْلِنَا وَطَوْلِنَا، وَنَلْجَأُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، وَنُسَلِّمُ الأَمْرَ إِلَيْهِ، وَنَقْرَعُ بَابَهُ، لِأَنَّهُ تَبَارَكَ وتعالى هُوَ العَلِيمُ بِمَا يُصْلِحُ حَالَنَا، وَبِذَلِكَ نَجْمَعُ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ.

لِذَا على كُلٍّ من الخَاطِبِ وَالمَخْطُوبَةِ، وَكُلِّ صَاحِبِ حَاجَةٍ من الحَوَائِجِ، أَنْ يَقْرَعَ بَابَ المَلِكِ الكَبِيرِ المُتَعَالِ، ولا شَيْءَ أَنْجَعُ وَأَنْفَعُ لِذَلِكَ من الصَّلاةِ والدُّعَاءِ، لِمَا فِيهِمَا من تَعْظِيمِ اللهِ تعالى، ومن الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ومن الافْتِقَارِ إِلَيْهِ قَالاً وَحَالاً.

طَرِيقَةُ الاسْتِخَارَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: الاسْتِخَارَةُ المَسْنُونَةُ التي نَدَبَنَا إِلَيْهَا سَيِّدُنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، هِيَ كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري رَحِمَهُ اللهُ تعالى في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِن الْقُرْآنِ، يَقُولُ: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي ـ أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ ـ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي ـ أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ ـ فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي، وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ».

القِرَاءةُ في صَلاةِ الاسْتِخَارَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: وَقَد ذَكَرَ جُمْهُورُ الفُقهَاءِ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ المُسْتَخِيرُ في الرَّكْعَةِ الأُولَى بَعْدَ سُورَةِ الفَاتِحَةِ بِسُورَةِ الكَافِرِينَ، وفي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ سُورَةِ الفَاتِحَةِ بِسُورَةِ الإِخْلاصِ.

وَذَكَرَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى تَعْلِيلاً لِذَلِكَ، فَقَالَ: نَاسَبَ الإِتْيَانُ بِهِمَا في صَلَاةٍ يُرَادُ مِنْهَا إِخْلَاصُ الرَّغْبَةِ، وَصِدْقُ التَّفْوِيضِ، وَإِظْهَارُ العَجْزِ، وَأَجَازُوا أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِمَا مَا وَقَعَ فِيهِ ذِكْرُ الخِيَرَةِ من القُرْآنِ الكَرِيمِ. اهـ.

من هذا المُنْطَلَقِ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنْ يَزِيدَ الـمُسْتَخِيرُ في صَلاةِ الاسْتِخَارَةِ على القِرَاءَةِ بَعْدَ سُورَةِ الفَاتِحَةِ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُـشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾. ثمَّ سُورَةِ الكَافِرِينَ في الرَّكْعَةِ الأُولَى، وفي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرَاً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالَاً مُبِينَاً﴾. ثمَّ سُورَةِ الإِخْلاصِ.

تَكْرَارُ الاسْتِخَارَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ من الحَنَفِيَّةِ والمَالِكِيَّةِ والشَّافِعِيَّةِ، إلى أَنَّ الـمُسْتَخِيرَ يُكَرِّرُ الاسْتِخَارَةَ بالصَّلاةِ والدُّعَاءِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، لِمَا رواه ابْنُ السُّنِّيِ عَن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَنَسُ، إِذَا هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَاسْتَخِرْ رَبَّكَ فِيهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى الَّذِي سَبَقَ إِلَى قَلْبِكَ، فَإِنَّ الخَيْرَ فِيهِ». وهذا التَّكْرَارُ يَكُونُ إِذَا لَمْ يَشْعُرِ العَبْدُ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ ولا بِانْقِبَاضِهِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْألُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: بَعْضُ النَّاسِ يَعْتَمِدُونَ على المَنَامَاتِ بَعْدَ الاسْتِخَارَةِ، وهذا اعْتِقَادٌ خَاطِئٌ، لِأَنَّ الاسْتِخَارَةَ لا عَلاقَةَ لَهَا بالمَنَامَاتِ والرُّؤَى، إلا إِذَا كَانَتْ الرُّؤْيَا وَاضِحَةً جَلِيَّةً تَتَعَلَّقُ بِشَأْنِ الخَاطِبِ والمَخْطُوبَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْـمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.

فَالاسْتِخَارَةُ دُعَاءٌ بَعْدَ الصَّلاةِ، ثمَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ الـمُسْتَخِيرُ إلى تَيْسِيرِ الأُمُورِ أَو تَعْسِيرِهَا، وَإلى انْـشِرَاحِ الصَّدْرِ أَو انْقِبَاضِهِ، ثمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَعْزِمُ وَيَتَوَكَّلُ على اللهِ تعالى بالفِعْلِ بَعْدَ تَيْسِيرِ الأُمُورِ، أَو يَـصْرِفُهُ بَعْدَ تَعْسِيرِ الأُمُورِ. هذا، والله تعالى أعلم.

اللَّهُمَّ اشْرَحْ صُدُورَنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 20/ جمادى الأولى /1437هـ، الموافق: 28/ شباط / 2016م