460ـ خطبة الجمعة: بداية الخلاص

 

 460ـ خطبة الجمعة: بداية الخلاص

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

مَا أَحْوَجَنَا وَنَحْنُ نَعِيشُ هذهِ الأَزْمَةَ، وهذا الزَّمَنَ العَصِيبَ، وهذهِ الشَّدَائِدَ والمَصَائِبَ، وهذهِ الهُمُومَ والأَحْزَانَ والأَكْدَارَ، أَنْ نَتَعَلَّمَ الأَمَلَ من سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، الذي كَانَ يَغْرِسُ الأَمَلَ في قُلُوبِ أَصْحَابِهِ، فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَسْبَابُ، كُلَّمَا زَادَهُم في الأَمَلِ.

الفَرَجُ يَأْتِي من قَلْبِ المِحْنَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الفَرَجُ من اللهِ تعالى يَأْتِي من حَيْثُ لا نَحْتَسِبُ ولا نُقَدِّرُ، يِأَتِي اللهُ بالفَرَجِ من عِنْدِهِ، وَيَأْتِي بالنَّصْرِ من قَلْبِ المِحْنَةِ، وَيَأْتِي بالنُّورِ من كَبِدِ الظَّلْمَاءِ، فاللهُ تَبَارَكَ وتعالى هُوَ المُؤَيِّدُ والحَافِظُ والنَّاصِرُ والمُعِينُ، وَإِذَا أَرَادَ أَمْرَاً هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَهُ، والبَشَرُ عَاجِزُونَ أَمَامَ مَوْعُودِ اللهِ تعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ، لَقَد طَافَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ على القَبَائِلِ، وَقَصَدَ رُؤَسَاءَهُم، وَتَوَجَّهَ بالدَّعْوَةِ إلى وُجَهَائِهِم، وَاسْتَمَرَّ على ذلكَ عَشْرَ سَنَوَاتٍ، وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَجِدَ عِنْدَ أَصْحَابِ الجَاهِ والمَنَعَةِ نُصْرَةً وَتَأْيِيدَاً، وَكَانَ يُخَاطِبُ الجَمِيعَ بِقَوْلِهِ: «مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي، وَلَهُ الْجَنَّةُ» رواه الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

فَلَمْ يَجِدْ آذَانَاً صَاغِيَةً، بَلْ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ قَادِمَاً من أَيِّ بَلَدٍ كَانَ، يَقُولُ لَهُ القَوْمُ: اِحْذَرْ غُلامَ قُرَيْشٍ لا يَفْتِنْكَ.

وَقَالَ لَهُ يَوْمَاً زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَخْرَجُوكَ؟ يَعْنِي قُرَيْشَاً.

فَقَالَ: «يَا زَيْدُ، إنَّ اللهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرْجَاً وَمَخْرَجَاً، وَإِنَّ اللهَ نَاصِرٌ دِينَهُ، وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ».

بَيْعَةُ العَقَبَةِ الأُولَى:

يَا عِبَادَ اللهِ، لَقَد جَاءَ الفَرَجُ من قَلْبِ المِحْنَةِ، وَجَاءَ النُّورُ من وَسَطِ الظَّلامِ، بَعْدَ سَنَوَاتٍ وعلى يَدِ سِتَّةِ نَفَرٍ من أَهْلِ يَثْرِبَ من الخَزْرَجِ.

يَقُولُ سَيِّدُنَا جَابِرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ وَكَانَ أَحَدَ السِّتَّةِ ـ: حَتَّى بَعَثَنَا اللهُ إِلَيْهِ مِنْ يَثْرِبَ، فَآوَيْنَاهُ وَصَدَّقْنَاهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِن الْمُسْلِمِينَ، يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ.

ثُمَّ ائْتَمَرُوا جَمِيعَاً، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟

فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلَاً، حَتَّى قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ، حَتَّى تَوَافَيْنَا.

فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، نُبَايِعُكَ.

قَالَ: «تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ» رواه الإمام أحمد.

يَا عِبَادَ اللهِ، لَقَد كَانَتْ بِدَايَةُ الخَلاصِ بَعْدَ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ على يَدِ سِتَّةِ نَفَرٍ لا حَوْلَ لَهُم ولا قُوَّةَ، فَهَلْ نُدْرِكُ هذا المَعْنَى؟ وَهَلْ يُدْرِكُ الغَارِقُونَ في الأَسْبَابِ، والشَّاكُّونَ في قُدْرَةِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ، والمُتَشَائِمُونَ اليَائِسُونَ من فَرَجٍ قَرِيبٍ لهذهِ الأُمَّةِ المَنْكُوبَةِ المَغْلُوبَةِ على أَمْرِهَا؟

﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدَّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدَّاً﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ، نَحْنُ في بِدَايَةِ عَامٍ هِجْرِيٍّ جَدِيدٍ أَقْبَلَ عَلَيْنَا مُحَمَّلَاً بِمَا فِيهِ، وعلى أَعْقَابِ عَامٍ هِجْرِيٍّ مَضَى مُوَدَّعٍ بِمَا اسْتَوْدَعْنَاهُ فِيهِ من أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، بَيْنَ عَامٍ مَضَى، وَعَامٍ أَقْبَلَ، نَقِفُ لِنَتَذَكَّرَ هِجْرَةَ سَيِّدِنَا المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَنَسْتَنْبِطَ مِنْهَا الأَمَلَ وَنَحْنُ نَعِيشُ هذا الأَلَمَ.

لَقَد عَزَمَتْ قُرَيْشٌ على قَتْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَاجْتَمَعُوا على بَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في ظُلْمَةِ اللَّيْلِ يَرْصُدُونَهُ مَتَى نَامَ لِيَثِبُوا عَلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأَحَاطُوا بِهِ إِحَاطَةَ السِّوَارِ بالمِعْصَمِ، ومن حَيْثُ السَّبَبُ المَادِّيُّ يَقْطَعُ أَهْلُ الأَسْبَابِ بِهَلاكِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

ولَكِنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَلَّمَنَا كَيْفَ يَكُونُ الأَمَلُ في وَسَطِ الأَلَمِ، وَكَيْفَ يَكُونُ التَّوَكُّلُ على اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرَاً﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ، قُولُوا لِمَنْ تَعَلَّقَ بالأَسْبَابِ وَظَنَّ أَنَّهَا شَرِيكَةٌ مَعَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾. ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئَاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾. ﴿واللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

لَقَد خَرَجَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من بَيْنِ أَظْهُرِهِم، وَهُوَ يَقْرَأُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدَّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدَّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾. لَقَد خَرَجَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الأَسِيرُ المُحَاصَرُ يَذُرُّ التُّرَابَ على رُؤُوسِ المُسْتَكْبِرِينَ الذينَ أَرَادُوا قَتْلَهُ، وَكَأَنَّ هذا التُّرَابَ رَمْزُ الفَشَلِ والخَيْبَةِ لأَصْحَابِ الاسْتِكْبَارِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يا عباد الله، كُونُوا على يَقِينٍ بِأَنَّ بِدَايَةَ الخَلاصِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَبِدَايَةَ الفَرَجِ بَعْدَ الضِّيقِ، وَبِدَايَةَ اليُسْرِ مَعَ العُسْرِ، والأَمْرُ يَحْتَاجُ مِنَّا إلى تَقْوَى وَصَبْرٍ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئَاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْعَلَ كَيْدَ مَن كَادَ لهذا البَلَدِ في نَحْرِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ تَدْمِيرَهُ في تَدْبِيرِهِ، عَاجِلاً غَيْرَ آجِلٍ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

 

الجمعة: 3/ محرم /1437هـ، الموافق: 16/تشرين الأول / 2015م