44ـ أشراط الساعة: ارتجاف المدينة لنفي خبثها

 

 أشراط الساعة

44ـ ارتجاف المدينة لنفي خبثها

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد أَخْبَرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ من عَلامَاتِ السَّاعَةِ ارْتِجَافُ المَدِينَةِ عِنْدَ قُرْبِ ظُهُورِ الدَّجَّالِ.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ: هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ؛ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ فِيهَا خَيْرَاً مِنْهُ، أَلَا إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ، تُخْرِجُ الْخَبِيثَ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ».

مَعنَى قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ»: عَنَى بِذَلِكَ أنَّ الأَمْصَارَ تُفْتَحُ على المُسْلِمِينَ، فَتَكْثُرُ الخَيْرَاتُ، وتَتَرَادَفُ عَليْهِم الفُتُوحَاتُ، يَخْرُجُ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ مِن بِلادِ الحِجَازِ وَبِلَادِ العَرَبِ، إِلى مَا وَجَدُوا مِنَ الخَصْبِ، واتَّخَذُوا البِلادَ المَفْتُوحَةَ دَاراً لَهُم، وَدَعُوا إلَيهَا مَن كَانَ بالمَدِينَةِ لِشِدَّةِ العَيْشِ بِهَا، وضِيقِ الحَالِ، فَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

وروى الشيخان عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ أَعْرَابِيَّاً بَايَعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ.

فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقِلْنِي بَيْعَتِي؛ فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي؛ فَأَبَى.

ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي؛ فَأَبَى. ـ لأنَّ الهِجْرَةَ كَانَتْ فَرضَاً فِي حَقِّ مَن يُبَايِع عَلى الإِسْلَامِ، وكَانَ ارتِدَادُهُم عَنْهَا مِن أَكْبَرِ الكَبَائِرِ، لِذَلِكَ دَعَا لَهُم سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ». روَاهُ البُخَاريُّ عَن سَعدِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ.

فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا».

تَنْفِي خَبَثَهَا: أي تَنْفِي مَن لَا خَيرَ فِيهِ، وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا: يَظْهَر ويَلمَعُ طَيِّبُهَا.

وروى الشيخان عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ، إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ ـ النَّقَبُ: الطَّرِيقُ بَينَ الجَبَلَينِ ـ  إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ، فَيُخْرِجُ اللهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ».

وفي رِوَايَةِ الإمام مسلم قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «فَيَأْتِي سِبْخَةَ الْجُرْفِ ـ أَيْ خَارِجَ الْمَدِينَةِ ـ فَيَضْرِبُ رِوَاقَهُ ـ فُسْطَاطَهُ وَقُبَّتَهُ ومَوْضِعَ جُلُوسِهِ ـ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ».

يَوْمُ الخَلاصِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ يَكُونُ يَوْمَ الخَلاصِ من كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ من مَدِينَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

روى الإمام أحمد عَنْ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «يَوْمُ الْخَلَاصِ وَمَا يَوْمُ الْخَلَاصِ، يَوْمُ الْخَلَاصِ وَمَا يَوْمُ الْخَلَاصِ، يَوْمُ الْخَلَاصِ وَمَا يَوْمُ الْخَلَاصِ».

فَقِيلَ لَهُ: وَمَا يَوْمُ الْخَلَاصِ؟

قَالَ: «يَجِيءُ الدَّجَّالُ، فَيَصْعَدُ أُحُدَاً، فَيَنْظُرُ الْمَدِينَةَ، فَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: أَتَرَوْنَ هَذَا الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ، هَذَا مَسْجِدُ أَحْمَدَ؛ ثُمَّ يَأْتِي الْمَدِينَةَ، فَيَجِدُ بِكُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَكَاً مُصْلِتَاً ـ أَيْ: مُجَرِّدَاً سَيْفَهُ ـ فَيَأْتِي سَبْخَةَ الْحُرْفِ، فَيَضْرِبُ رُوَاقَهُ ـ فُسْطَاطَهُ وَقُبَّتَهُ ومَوْضِعَ جُلُوسِهِ ـ، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ، فَلَا يَبْقَى مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ، وَلَا فَاسِقٌ وَلَا فَاسِقَةٌ، إِلَّا خَرَجَ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ يَوْمُ الْخَلَاصِ».

أيُّها الإخوة الكرام: وَيَزْعُمُ اليَهُودُ عَلَيْهِم لَعْنَةُ اللهِ والمَلائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ، أَنَّهُم قَتَلُوا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ، وَصَلَبُوهُ؛ وَزَعَمَ النَّصَارَى بِجَهْلٍ أَنَّ عِيسَى قُتِلَ وَصُلِبَ وَدُفِنَ، وَخَرَجَ من قَبْرِهِ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَصَعِدَ إلى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَن يَمِينِ الرَّبِّ أَبِيهِ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ يَوْمَ الخَلاصِ، لِيَقْضِيَ بَيْنَ الأَحْيَاءِ والأَمْوَاتِ ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبَاً﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد بَيَّنَ اللهُ تعالى الحَقَّ، وَكَذَّبَ اليَهُودَ والنَّصَارَى، فَقَالَ تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَاً * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزَاً حَكِيمَاً * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدَاً﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: المَقْصُودُ من يَوْمِ الخَلاصِ الذي جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، هُوَ يَوْمُ خَلاصِ المَدِينَةِ من كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ، وَمُشْرِكٍ وَمُشْرِكَةٍ، وَكَافِرٍ وَكَافِرَةٍ؛ هذا، والله تعالى أعلم.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ أَنَّ المَدِينَةَ تَرْتَجِفُ ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، حَتَّى يُخْرِجَ اللهُ تعالى مِنْهَا كُلَّ خَبِيثٍ فِيهَا، فلا يَبْقَى كَافِرٌ ولا كَافِرَةٌ، ولا مُشْرِكٌ ولا مُشْرِكَةٌ، ولا مُنَافِقٌ ولا مُنَافِقَةٌ، ولا فَاسِقٌ ولا فَاسِقَةٌ، إلا خَرَجَ من المَدِينَةِ وَلَحِقَ بالدَّجَّالِ، لأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ دُخُولُهَا، بَلْ مُحَرَّمٌ دُخُولُ رُعْبِهِ عَلَيْهَا، وذلكَ لِوُجُودِ المَلائِكَةِ المُحِيطَةِ بالمَدِينَةِ تَحْرُسُهَا من دُخُولِهِ وَدُخُولِ رُعْبِهِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَرْزُقَنَا الشَّهَادَةَ في سَبِيلِهِ، والمَوْتَ في بَلَدِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 15/محرم /1437هـ، الموافق: 28/تشرين الأول / 2015م