464ـ خطبة الجمعة: الشاكرون لا يتزعزعون أيام الفتن

 

 464ـ خطبة الجمعة: الشاكرون لا يتزعزعون أيام الفتن

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

لَقَد أَغْدَقَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا من نِعَمِهِ العَظِيمَةِ، وآلائِهِ الجَسِيمَةِ، بِمَا لا عَدَّ لَهَا ولا حَصْرَ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا﴾. وَجَمِيعُ هذهِ النِّعَمِ للاخْتِبَارِ والابْتِلاءِ ﴿لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾؟ والفِتْنَةُ في السَّرَّاءِ والرَّخَاءِ والعَطَاءِ أَعْظَمُ من فِتْنَةِ الضَّرَّاءِ والشِّدَّةِ والمَنْعِ.

يا عباد الله: رَبُّنَا عزَّ وجلَّ قَرَنَ الشُّكْرَ بالإِيمَانِ، قَالَ تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾. وَأَخْبَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى أَنَّ الشُّكْرَ هُوَ الغَايَةُ من خَلْقِ الإِنْسَانِ، قَالَ تعالى: ﴿واللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئَاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. وَجَعَلَ رِضَاهُ تعالى في شُكْرِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾.

شُكْرُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ:

يا عباد الله: لَقَد جَعَلَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ الأَنْبِيَاءَ والمُرْسَلِينَ قُدْوَةً لِأُمَمِهِم، وَجَعَلَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قُدْوَةً لَنَا، وَلَقَد كَانَ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ شَاكِرِينَ للهِ تعالى، قَالَ تعالى عَن سَيِّدِنَا نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدَاً شَكُورَاً﴾. وَقَالَ عَن سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتَاً للهِ حَنِيفَاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرَاً لِأَنْعُمِهِ﴾.

بَلْ أَمَرَ اللهُ تعالى عِبَادَهُ بالشُّكْرِ، قَالَ تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرَاً﴾. وَأَمَرَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بذلكَ، فَقَالَ: ﴿بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾.

يا عباد الله: لَقَد أَوْصَى اللهُ تعالى الإِنْسَانَ بالشُّكْرِ، فَقَالَ: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.

وَوَصِيَّةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ كَانَتِ الشُّكْرَ للهِ تعالى، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ، واللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، واللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ».

فَقَالَ: «أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» رواه أبو داود عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أَهْلُ الشُّكْرِ لا يَتَزَعْزَعُونَ أَيَّامَ الفِتَنِ:

يا عباد الله: أَهْلُ الشُّكْرِ للهِ تعالى هُمْ خِيرَةُ اللهِ من خَلْقِهِ، وَهُمُ المُخَصَّصُونَ بِمِنَّتِهِ من بَيْنِ عِبَادِهِ، وَهُمُ الذينَ لا يَتَزَعْزَعُونَ أَيَّامَ الفِتَنِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئَاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾.

يا عباد الله: لَمَّا عَرَفَ إِبْلِيسُ العَدُوُّ اللَّدُودُ للإِنْسَانِ قَدْرَ الشُّكْرِ وَمَقَامَهُ عِندَ اللهِ تعالى، وَأَنَّهُ من أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَعْظَمِهَا وَأَعْلاهَا، جَعَلَ غَايَتَهُ قَطْعَ النَّاسِ عَن الشُّكْرِ، قَالَ تعالى مُخْبِرَاً عَنْهُ: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾.

يا عباد الله: الشُّكْرُ للهِ تعالى أَمَنَةٌ من العَذَابِ، قَالَ تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبَاً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾.

يا عباد الله: الشَّاكِرُونَ للهِ تعالى لا يَتَزَعْزَعُونَ أَيَّامَ الفِتَنِ وَالمِحَنِ والابْتِلاءَاتِ، لأَنَّهُم على مَوْعِدٍ من اللهِ تعالى بِأَنْ يُنَجِّيَهُم من الفِتَنِ والعَذَابِ ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾.

العِصْيَانُ سَبَبٌ لِسَلْبِ النِّعَمِ:

يا عباد الله: العِصْيَانُ للهِ تعالى سَبَبٌ لِسَلْبِ النِّعَمِ، فهؤلاءِ قَوْمُ سَبَأٍ لَمَّا تَنَكَّرُوا لِنِعَمِ اللهِ تعالى وَجَحَدُوا بِهَا، وَقَابَلُوهَا بالعِصْيَانِ سَلَبَهَا اللهُ تعالى مِنْهُم، وَأَذَاقَهُم أَلْوَانَاً من العَذَابِ، قَالَ تعالى: ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾.

وقَالَ تعالى حِكَايَةً عَن أَصْحَابِ الجَنَّةِ الذينَ قَابَلُوا نِعْمَةَ اللهِ تعالى بالنُّكْرَانِ وَحِرْمَانِ المَسَاكِينِ: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يا عباد الله، عَلَيَّ وَعَلَيْكُم بالشُّكْرِ للهِ تعالى على النِّعَمِ، لأَنَّهُ قَلَّمَا زَالَتْ نِعْمَةٌ عَن قَوْمٍ فَعَادَتْ إِلَيْهِم، وَكُلُّ نِعْمَةٍ لا تُقَرِّبُ من اللهِ تعالى فَهِيَ نِقْمَةٌ.

يَقُولُ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: إِنَّ النِّعْمَةَ مَوْصُولَةٌ بالشُّكْرِ، والشُّكْرُ مُتَعَلِّقٌ بالمَزِيدِ، وَهُمَا مَقْرُونَانِ في قَرْنٍ، وَلَنْ يَنْقَطِعَ المَزِيدُ من اللِه عزَّ وجلَّ حَتَّى يَنْقَطِعَ الشُّكْرُ من العَبْد.

يا عباد الله: رَبُّنَا عزَّ وجلَّ يُمَتِّعُ عِبَادَهُ بالنِّعْمَةِ مَا شَاءَ، فَإِذَا لَمْ يَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا قَلَبَهَا عَلَيْهِم نِقْمَةً وَعَذَابَاً، وَمَن رَأَى نِعْمَةَ اللهِ تعالى تَتَوَالَى عَلَيْهِ وَهُوَ عَاصِيهِ فَلْيَذْكُرْ قَوْلَهُ تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾. وَلْيَذْكُرْ قَوْلَهُ تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا من الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، ومن الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلاءِ، ومن الرَّاضِينَ بِمُرِّ القَضَاءِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 1/ صفر /1437هـ، الموافق: 13/تشرين الثاني / 2015م