466ـ خطبة الجمعة: الابتلاء يرد العبد إلى حقيقته
الحمد لله رب العالمين

.

466ـ خطبة الجمعة: الابتلاء يرد العبد إلى حقيقته

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

نَحْنُ في قَاعَةِ امْتِحَانٍ كَبِيرَةٍ، كُلُّ يَوْمٍ في امْتِحَانٍ جَدِيدٍ، وَكُلُّ مَا في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا امْتِحَانٌ وَابْتِلاءٌ، المَالُ فِيهَا امْتِحَانٌ، والزَّوْجَةُ والوَلَدُ فِيهَا امْتِحَانٌ، الغِنَى والفَقْرُ فِيهَا امْتِحَانٌ، الصِّحَّةُ والمَرَضُ فِيهَا امْتِحَانٌ، الأَمْنُ والخَوْفُ فِيهَا امْتِحَانٌ، الحَرْبُ والسِّلْمُ فِيهَا امْتِحَانٌ، كُلُّ مَا يَعْتَرِينَا في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا امْتِحَانٌ حَتَّى نَلْقَى اللهَ تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْـمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾.

الكُلُّ في امْتِحَانٍ:

يا عباد الله: لَيْسَ فِينَا أَحَدٌ إلا وَهُوَ مُمْتَحَنٌ، وَلَيْسَ فِينَا مَن هُوَ أَكْبَرُ من أَنْ يُمْتَحَنَ، كَيْفَ لا، وَالحَبِيبُ الأَعْظَمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ سَأَلَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟

قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبَاً اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَـمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» رواه الإمام أحمد والترمذي عَن سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

لَيْسَ في البَشَرِ مَن يَمْلِكُ رَفْضَ الامْتِحَانِ وَلَكِنْ فِينَا مَن يُمْتَحَنُ بالبَلاءِ فَيَنْجَحُ بالصَّبْرِ والإِيمَانِ والاحْتِسَابِ، فَيَكُونُ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، وَفِينَا مَن يُمْتَحَنُ بالبَلاءِ فَيَرْسُبُ بالجَزَعِ والاعْتِرَاضِ على اللهِ تعالى، فَيـَخْسَرُ الدُّنْيَا والآخِرَةَ.

الابْتِلاءُ يَرُدُّ العَبْدَ إلى حَقِيقَتِهِ:

يا عباد الله: الابْتِلاءُ يَرُدُّ العَبْدَ إلى حَقِيقَتِهِ، وَيُظْهِرُ مَعْدِنَهُ، قَالَ تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى الفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ حِينَ قَالَ: النَّاسُ مَا دَامُوا في عَافِيَةٍ مَسْتُورُونَ، فَإِذَا نَزَلَ بِهِمُ البَلاءُ صَارُوا إلى حَقَائِقِهِم، فَصَارَ المُؤْمِنُ إلى إِيمَانِهِ، وَصَارَ المُنَافِقُ إلى نِفَاقِهِ. اهـ.

يا عباد الله: الذي ابْتَلانَا هُوَ الذي أَنْعَمَ عَلَيْنَا، والذي أَخَذَ مِنَّا هُوَ الذي أَغْدَقَ عَلَيْنَا، والذي أَخَافَنَا هُوَ الذي أَسْبَغَ عَلَيْنَا نِعْمَةَ الأَمْنِ، والذي أَجَاعَنَا هُوَ الذي أَطْعَمَنَا من جُوعٍ.

يا عباد الله: إِذَا نَزَلَتْ بِنَا مُصِيبَةٌ فَصَبَرْنَا كَانَتْ مُصِيبَةً وَاحِدَةً، وَإِذَا نَزَلَتْ بِنَا وَلَمْ نَصْبِرْ فَقَد أُصِبْنَا بِمُصِيبَتَيْنِ، مُصِيبَةِ فَقْدِ المَحْبُوبِ، وَمُصِيبَةِ فَقْدَ الثَّوَابِ ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْـمُهْتَدُونَ﴾. وَمِصْدَاقُ ذلكَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْـخُسْرَانُ الْـمُبِينُ﴾.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَن قَالَ:

كُنْ عَن هُمُومِكَ مُعْرِضَاً   ***   وَكِلِ الأُمُورَ إلى القَضَا

وَابْشِـرْ بِـخَـيْرٍ عَـاجِلٍ    ***   تَـنْـسَـى بِـهِ مَا قَد مَضَى

فَـلَـرُبَّ أَمْـرٍ مُـسْـخِـطٍ   ***   لَـكَ في عَـوَاقِبِهِ الرِّضَا

فَهْمُ سَلَفِنَا الصَّالِحِ للابْتِلاءِ:

يا عباد الله: لَقَد فَهِمَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ حَقِيقَةِ الابْتِلاءِ، وَفَهِمُوا الحِكْمَةَ الشَّرْعِيَّةَ للابْتِلاءِ، فَكَانُوا أَفْضَلَ مِنَّا حَالاً، وَضَرَبُوا أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ في الصَّبْرِ والاحْتِسَابِ.

أولاً: سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كَانَ يَحْمَدُ اللهَ تعالى على الابْتِلاءِ، فَقَد كَانَ يَقُولُ: مَا ابْتُلِيتُ بِبَلِيَّةٍ إلا كَانَ للهِ عَلَيَّ فِيهَا أَرْبَعُ نِعَمٍ، إِذْ لَمْ تَكُنْ في دِينِي، وَإِذْ لَمْ أُحْرَمِ الرِّضَا، وَإِذْ لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ، وَإِذْ رَجَوْتُ الثَّوَابَ عَلَيْهَا.

ثانياً: سَيِّدُنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، لَمَّا بُتِرَتْ رِجْلُهُ، وَفَقَدَ وَلَدَهُ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، كَانَ لِي أَطْرَافٌ أَرْبَعَةٌ، فَأَخَذْتَ وَاحِدَاً، فَلَئِنْ كُنْتَ قَد أَخَذْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ، وَإِنْ كُنْتَ قَد ابْتَلَيْتَ فَلَطَالَمَا عَافَيْتَ، فَلَكَ الحَمْدُ على مَا أَخَذْتَ وعلى مَا عَافَيْتَ.

وَقَالَ في وَلَدِهِ: الحَمْدُ للهِ، كَانُوا سَبْعَةً، فَأَخَذْتَ مِنْهُمْ وَاحِدَاً وَأَبْقَيْتَ سِتَّةً، فَلَئِنْ كُنْتَ قَد ابْتَلَيْتَ فَلَطَالَمَا عَافَيْتَ، وَلَئِنْ كُنْتَ قَد أَخَذْتَ فَلَطَالَمَا أَعْطَيْتَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يا عباد الله، اِبْحَثُوا في الابْتِلاءِ عَن الأَجْرِ، وَلا سَبِيلَ إلى الصَّبْرِ إلا بِعَزِيمَةٍ إِيمَانِيَّةٍ، وَإِرَادَةِ تَوْبَةٍ، ولا تَنْسَوْا شُكْرَ اللهِ تعالى على العَطَاءِ، والصَّبْرَ على الابْتِلاءِ، ولا تَنْسَوْا بِأَنَّ اللهَ تعالى يَرَاكُم، وَيَعْلَمُ مَا بِكُم، وَأَنَّهُ أَرْحَمُ بِكُم من أَنْفُسِكُم، ومن النَّاسِ أَجْمَعِينَ، فلا تَشْكُوا إلا إلى إِلَيْهِ، وَقُولُوا كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بذلكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **      **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 15/ صفر /1437هـ، الموافق: 27/تشرين الثاني / 2015م