106ـ نحو أسرة مسلمة: الأجور المترتبة على الزواج (3)

 

 نحو أسرة مسلمة

106ـ الأجور المترتبة على الزواج (3)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: الأُمَّةُ المُحَمَّدِيَّةُ هِيَ أُمَّةُ الأَمْرِ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْيِ عَن المُنْكَرِ، هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ على الإِطْلاقِ، بِشَهَادَةِ اللهِ تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللهِ﴾. لِذَا كَانَ لا بُدَّ من الزَّوَاجِ من أَجْلِ امْتِدَادِ النَّسْلِ، من أَجْلِ الأَمْرِ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْيِ عَن المُنْكَرِ، من أَجْلِ حَمْلِ رِسَالَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، من أَجْلِ التَّبْلِيغِ عَن سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

من هذا المُنْطَلَقِ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ» رواه الإمام الحاكم وأبو داود عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

من هذا المُنْطَلَقِ دَعَا الصَّالِحُونَ بِقَوْلِهِم: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامَاً﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: شَاءَ اللهُ تعالى أَنْ يُكْرِمَنَا بِأَنْ خَلَقَ لَنَا من أَنْفُسِنَا أَزْوَاجَاً، وَشَاءَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ أَنْ يُحِلَّ لَنَا النِّكَاحَ، وَأَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْنَا السِّفَاحَ، وَشَاءَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ أَنْ يُرَتِّبَ لَنَا أُجُورَاً عَظِيمَةً على نِعْمَةِ الزَّوَاجِ.

أَعْطَانَا أَجْرَ امْتِثَالِ أَمْرِهِ في الزَّوَاجِ، وَأَجْرَ إِحْيَاءِ سُنَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَجْرَ الإِنْفَاقِ على الزَّوْجَةِ والوَلَدِ، وَأَجْرَ التَّعَاوُنِ عل طَاعَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وَأَجْرَ إِعْفَافِ أَنفُسِنَا وَزَوْجَاتِنَا عَن الحَرَامِ، وَأَجْرَ تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ.

أَجْرُ الدُّعَاءِ لَكَ بَعْدَ مَوْتِكَ:

أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد رَغَّبَنَا الإِسْلامُ في الزَّوَاجِ، وَدَعَا إِلَيْهِ القُرْآنُ العَظِيمُ بِصُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَتَارَةً يَذْكُرُهُ على أَنَّهُ من سُنَنِ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ، وَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَهْتَدِيَ بِهُدَاهُم، فَيَقُولُ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجَاً وَذُرِّيَّةً﴾. وَتَارَةً يَأْمُرُنَا بِهِ: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾. وَتَارَةً يَأْمُرُنَا أَنْ نُزَوِّجَ مَن لا زَوْجَ لَهُ: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: أَمَّا اليَوْمَ فَتَرَى الكَثِيرَ من الشَّبَابِ والشَّابَّاتِ يَعْزِفُونَ عَن الزَّوَاجِ هَرَبَاً من تَحَمُّلِ أَعْبَائِهِ، وَبِذَلِكَ يُفَوِّتُونَ على أَنْفُسِهِم أُجُورَاً عَظِيمَةً لا يَعْلَمُهَا إلا اللهُ تعالى، من هذهِ الأُجُورِ التي حُرِمَهَا مَن عَزَفَ عَن الزَّوَاجِ من الشَّبَابِ والشَّابَّاتِ، اِنْقِطَاعُ عَمَلِهِم بَعْدَ مَوْتِهِم.

أَمَّا من الْتَزَمَ أَمْرَ اللهِ تعالى، وَأَسْرَعَ إلى الزَّوَاجِ من الشَّبَابِ والشَّابَّاتِ، لِأَنَّهُ لا يَدْرِي مَتَى يَنْتَهِي أَجَلُهُ، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى بَعْدَ مَوْتِهِ تَنْفَعُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ، إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».

أيُّها الإخوة الكرام: مَن عَزَفَ عَن الزَّوَاجِ حُرِمَ هذهِ النِّعْمَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ، بَلْ حُرِمَ عِمَادَ ظَهْرِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، وَقُرَّةَ عَيْنِهِ؛ دَخَلَ الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ على مُعَاوِيَةَ، وَوَلَدُهُ يَزِيدُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظْرَةَ إِعْجَابِ.

فَقَالَ: يَا أَبَا بَحْرٍ، مَا تَقُولُ في الوَلَدِ؟

فَعَلِمَ مَا أَرَادَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، هُم عِمَادُ ظُهُورِنَا، وَثَمَرُ قُلُوبِنَا، وَقُرَّةُ أَعْيُنِنَا، بِهِم نَصُولُ على أَعْدَائِنَا، وَهُمُ الخَلَفُ مِنَّا لِمَنْ بَعْدَنَا، فَكُنْ لَهُم أَرْضَاً ذَلِيلَةً، وَسَمَاءً ظَلِيلَةً، إِنْ سَأَلُوكَ فَأَعْطِهِمْ، وَإِنِ اسْتَعْتَبُوكَ (طَلَبُوا مِنْكَ الرِّضَا) فَأَعْتِبْهُمْ، لا تَمْنَعْهُم رِفْدَكَ (عَطَاءَكَ) فَيَمَلُّوا قُرْبَكَ، وَيَكْرَهُوا حَيَاتَكَ، وَيَسْتَبْطِئُوا وَفَاتَكَ.

فَقَالَ: للهِ دَرُّكَ يَا أَبَا بَحْرٍ، هُمْ كَمَا وَصَفْتَ.

أيُّها الإخوة الكرام: مَن عَزَفَ عَن الزَّوَاجِ حُرِمَ نِعْمَةَ الوَلَدِ، الذي يَكُونُ امْتِدَادَاً لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَانْظُرُوا إلى مَن مَاتَ وَتَرَكَ وَلَدَاً صَالِحَاً كَم انْتَفَعَ مِنْهُ؟

أولاً: صَلاحُ الوَلَدِ في صَحِيفَةِ وَالِدَيْهِ:

أَلَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»؟ رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أَلَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلَاً وَاحِدَاً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»؟ رواه الشيخان عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

ثانياً: الدُّعَاءُ من الوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ:

وَخَيْرُ الدُّعَاءِ مَا عَلَّمَنَا إِيَّاهُ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ في القُرْآنِ العَظِيمِ: ﴿رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرَاً﴾.

وَكَانَ بَعْضُهُم يَدْعُو لِوَالِدَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا بَعْدَ كُلِّ صَلاةٍ بهذا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ غُرْبَتَهُم، وَآنِسْ وَحْدَتَهُم، وَأَعْلِ قَدْرَهُم وَشَأْنَهُم وَدَرَجَاتِهِم، وحَقَّقَ آمَالَهُم وأَمَانِيهِم، وَاجْعَلْ قُبُورَهُم رَوْضَةً من رِيَاضِ الجَنَّةِ، ولا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُم، ولا تَفْتِنَّا بَعْدَهُم، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُم.

وَأَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا بِصَبْرِهِمُ الجَمِيلِ أَنْ تُعَطِّفَ عَلَيْهِم قَلْبَ الحَبِيبِ الأَعْظَمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقُلُوبَ الأَوْلِيَاءِ والصَّالِحِينَ من عِبَادِكَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

ثالثاً: الاسْتِغْفَارُ من الوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ:

روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ؛ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَّى لِي هَذِهِ؟

فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ».

أيُّها الإخوة الكرام: مَن حُرِمَ نِعْمَةَ الزَّوَاجِ فَقَد حُرِمَ هذا الأَجْرَ العَظِيمَ.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: السَّعَادَةُ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا مَطْلَبٌ عَظِيمٌ، وَمَقْصِدٌ جَلِيلٌ، يَسْعَى إِلَيْهَا كُلُّ حَيٍّ، غَيْرَ أَنَّ هذهِ السَّعَادَةَ لا تُحَصَّلُ إلا بِمَا شَرَعَ اللهُ عزَّ وجلَّ لِعِبَادِهِ، وَمَا أَرْشَدَهُم إِلَيْهِ من طَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ، والأَخْذِ بِمَا وَضَعَ الحَقُّ جَلَّ جَلالُهُ من سُنَنٍ، وَمَا شَرَعَ من أَسْبَابٍ.

وَمِمَّا شَرَعَ اللهُ تعالى من أَسْبَابِ السَّعَادَةِ، وَجَبَلَ النُّفُوسَ عَلَيْهِ، الارْتِبَاطُ بِرِبَاطِ الزَّوْجِيَّةِ، فَإِنَّهُ من أَعْظَمِ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَحُصُولِ الطُّمَأْنِينَةِ والسَّكِينَةِ.

روى الإمام أحمد عَن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلَاثَةٌ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلَاثَةٌ، مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ السُّوءُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ».

وَمِن تَمَامِ فَضْلِ اللهِ تعالى على الأَزْوَاجِ أَنَّهُ رَتَّبَ عل هذا الزَّوَاجِ أُجُورَاً عَظِيمَةً لا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ عَلَيْهَا الإِنْسَانُ إلا بالزَّوَاجِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَ الشَّبَابَ لِأَسْبَابِ الزَّوَاجِ، وَأَنْ يُهَيِّئَ لَهُمُ الزَّوْجَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَكَذَلِكَ للشَّابَّاتِ الأَزْوَاجَ الصَّالِحِينَ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

 

الأحد: 17/ صفر /1437هـ، الموافق: 29/ تشرين الثاني / 2015م