490ـ خطبة الجمعة: يا هذا، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة

.

490ـ خطبة الجمعة: يا هذا، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: طُوبَى لِمَنْ سَمِعَ فَوَعَى، وَطُوبَى لِمَنْ تَذَكَّرَ لَحْدَهُ يَوْمَ يُوضَعُ فِيهِ وَحْدَهُ، طُوبَى لِمَنِ اسْتَعَدَّ لِيَوْمٍ يُوضَعُ فِيهِ الكِتَابُ، وَتَقَطَّعَتْ فِيهِ الأَسْبَابُ، وَشَخَصَتْ فِيهِ الأَبْصَارُ، فَإِمَّا إلى جَنَّةٍ، وإِمَّا إلى نَارٍ، طُوبَى لِمَنِ اسْتَعَدَّ لِيَوْمٍ يَقُومُ فِيهِ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ، طُوبَى لِمَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ بَقَاءٍ وَلَا خُلُودٍ، فَنَحْنُ عَمَّا قَلِيلٍ ظَاعِنُونَ، وَمَا هِيَ إلا أَيَّامٌ وَعَنْ هَذِهِ الدُّنْيَا رَاحِلُونَ، ثمَّ نَحْنُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّنَا مُحَاسَبُونَ، فَمَا نَحْنُ قَائِلُونَ ﴿إِذَا الصُّحُفُ نُـشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾؟

حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسبُوا:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَبْكِي على أَنْفُسِنَا قَبْلَ أَنْ يُبْكَى عَلَيْنَا، وَلْنُحَاسِبْ أَنْفُسَنَا قَبْلَ أَنْ نُحَاسَبَ، وَلْنَحْمِلْ أَنْفُسَنَا على الطَّاعَاتِ قَبْلَ أَنْ نُحْمَلَ على الرِّقَابِ، لِنَسْتَعِدَّ للمَوْتِ حَتَّى لَا يُنَادِيَ العَبْدُ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّنَا يُوقِنُ بِالمَوْتِ، وَلَكِنْ مَنِ المُسْتَعِدُّ لَهُ؟ وَكُلُّنَا مُوقِنٌ بِالنَّارِ، وَلَكِنْ مَنِ الخَائِفُ مِنْهَا؟ وَكُلُّنَا مُوقِنٌ بِالجَنَّةِ، وَلَكِنْ مَنِ العَامِلُ لَهَا؟

فَيَا مَنْ حَرَّضَ على سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَيَا مَنْ حَرَّضَ على سَلْبِ الأَمْوَالِ، وَيَا مَنْ أَشْعَلَ نَارَ الفِتْنَةِ، وَيَا مَنْ نُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قَلْبِهِ، وَيَا مَنْ أَكَلَ المَالَ الحَرَامَ، وَيَا مَنِ اعْتَدَى على أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَيَا مَنْ يَتَّمَ الأَطْفَالَ وَرَمَّلَ النِّسَاءَ، وَيَا مَنْ يَرَى مَا حَلَّ في بِلَادِ الشَّامِ، وَمَا زَالَ مُصِرَّاً على مَا هُوَ عَلَيْهِ، أَتَظُنُّ أَنَّ اللهَ تعالى لَا يَرَاكَ، أَو أَنَّكَ تُعْجِزُ اللهَ هَرَبَاً؟!

يا عَبدَ اللِه، أَلَا تُفَكِّرُ في القَبْرِ وَضَمَّتِهِ؟! أَلَا تُفَكِّرُ في الـصِّرَاطِ وَحِدَّتِهِ؟! أَلَا تُفَكِّرُ في النَّارِ وَالأَهْوَالِ وَالأَغْلَالِ؟! أَمَا تَخْشَى مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾؟!

يا عَبدَ اللِه، قِفْ مَعَ نَفْسِكَ وَقْفَةَ صِدْقٍ، مَاذَا تَبْتَغِي مِمَّا تَقُولُ وَتَفْعَلُ؟ أَتَبْتَغِي بِإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَتَمْزِيقِ الأَشْلَاءِ، وَتَهْدِيمِ البُيُوتِ، أَنْ تَكُونَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ؟!

يا عَبدَ اللِه، هَلْ أَنْتَ تَتَحَرَّكُ بِقَالَبٍ دُونَ قَلْبٍ؟! هَلْ مَاتَ قَلْبُكَ وَنُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَةُ؟!

يا عَبدَ اللِه، لَا تَكُنْ ﴿كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾.

لِنَخَفِّفْ عَنْ أَنْفُسِنَا الحِسَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَخَفِّفْ عَنْ أَنْفُسِنَا الحِسَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَذَلِكَ بِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِنَا في الدُّنْيَا، وإلا فَالحِسَابُ وَرَبِّ العِبَادِ عَسِيرٌ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ عُذِّبَ».

قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا: أَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابَاً يَسِيرَاً﴾؟

قَالَ: «ذَلِكِ العَرْضُ» رواه الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا.

يَا عِبَادَ اللهِ: هُنَاكَ حِسَابٌ يَسِيرٌ، وَحِسَابٌ عَسِيرٌ؛ فَاليَسِيرُ يَكُونُ لِمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَهَذَا لَا يُدَقَّقُ عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟

فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ؛ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ؛ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ».

وَأَمَّا الحِسَابُ العَسِيرُ عِنْدَمَا يُنَادَى على العَبْدِ على رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ: ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنُخَفِّفْ عَنْ أَنْفُسِنَا الحِسَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَذَلِكَ بِإِبْرَاءِ الذِّمَّةِ مِنَ الحُقُوقِ، وَخَاصَّةً الدِّمَاءِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ» رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

ثمَّ الأَمْوَالِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ» رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.

وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ كَيْ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَيَسْأَلُ: «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟». كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسَاً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا.

فَقَالَ: «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟».

قَالُوا: لَا.

قَالَ: «فَهَلْ تَرَكَ شَيْئَاً؟».

قَالُوا: لَا؛ فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، صَلِّ عَلَيْهَا.

قَالَ: «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟».

قِيلَ: نَعَمْ.

قَالَ: «فَهَلْ تَرَكَ شَيْئَاً؟».

قَالُوا: ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ؛ فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا.

قَالَ: «هَلْ تَرَكَ شَيْئَاً؟».

قَالُوا: لَا.

قَالَ: «فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟».

قَالُوا: ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ.

قَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ».

قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: طُوبَى لِمَنْ سَمِعَ فَوَعَى، هَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ في آخِرِ أَيَّامِ عُمُرِهِ المُبَارَكِ، يَقِفُ على المِنْبَرِ فَيَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ دَنَى مِنِّي حُقُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، فَمَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرَاً، فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضَاً، فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ أَخَذْتُ لَهُ مَالَاً، فَهَذَا مَالِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ؛ ولَا يَقُولَنَّ رَجُلٌ: إِنَّي أَخْشَى الشَّحْنَاءَ مِنْ قِبَلِ رَسُولِ اللهِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّحْنَاءَ لَيْسَتْ مِنْ طَبِيعَتِي، وَلَا مِنْ شَأْنِي، أَلَا وإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ مَنْ أَخَذَ حَقَّاً إِنْ كَانَ، أَوْ حَلَّلَنِي، فَلَقِيتُ اللهَ وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ، أَلَا وَإِنِّي لَا أَرَى ذَلِكَ بِمُغْنٍ عَنِّي حَتَّى أَقُومَ فِيكُمْ مِرَارَاً».

ثُمَّ نَزَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَعَادَ إِلَى مَقَالَتِهِ فِي الشَّحْنَاءِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَرُدَّهُ، وَلَا يَقُولُ: فُضُوحُ الدُّنْيَا، أَلَا وَإِنَّ فُضُوحَ الدُّنْيَا خَيْرٌ مِنْ فُضُوحِ الْآخِرَةِ» رواه الطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

فَيَا مَنْ حَرَّضَ وَمَا زَالَ مُحَرِّضَاً على سَفْكِ الدِّمَاءِ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، وَتَرَاجَعْ عَنْ ذَلِكَ، وَأَعْلِنْ جِهَارَاً نَهَارَاً، كَمَا حَرَّضْتَ جِهَارَاً نَهَارَاً، فَفُضُوحُ الدُّنْيَا خَيْرٌ مِنْ فُضُوحِ الْآخِرَةِ؛ الأُمَّةُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ تَشْكُوكَ إلى اللهِ تعالى في سِرِّهَا وَجَهْرِهَا، وَلَا تَظُنَّ بِأَنَّ اللهَ تعالى غَافِلٌ، وَتَذَكَّرْ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا دَعْوَةُ مَظْلُومٍ، سَرَتْ لَيْلَاً، غَفَلْنَا عَنْهَا، وَاللهُ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْهَا.

فَوَّضْنَا أَمْرَنَا إلى اللهِ تعالى.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 6/ شعبان /1437هـ، الموافق: 13/أيار / 2016م