10-دروس رمضانية 1437هـ: يا من زلت به الجوارح

.

دروس رمضانية 1437هـ

10ـ يا من زلت به الجوارح

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَسْمَعْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ تعالى، إِذَا تَدَبَّرْنَاهَا هَانَتْ عَلَيْنَا الدُّنْيَا، وَعَلِمْنَا بِأَنَّ أَيَّامَنَا فِيهَا قَلِيلَةٌ، وَأَنَّ حَيَاتَنَا فِيهَا مَحْدُودَةٌ، وَأَنَّ أَنْفَاسَ أَعْمَارِنَا مَحْدُودَةٌ، لِنَسْمَعْ قَوْلَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِ الخَلْقِ وَحَبِيبِ الحَقِّ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: إِذَا كَانَ أَفْضَلُ الخَلْقِ، وَأَشْرَفُ العِبَادِ، وَأَحَبُّ خَلْقِ اللهِ تعالى إلى اللهِ قَدْ صَارَ إلى اللهِ تعالى، فَكَيْفَ بِمَنْ سِوَاهُ؟ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَوْلَى.

ثمَّ يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾. إِنَّهُ مَشْهَدٌ عَظِيمٌ، حَيْثُ الخُصُومَةُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى لِفَصْلِ القَضَاءِ، يَوْمَ يَحْكُمُ اللهُ تعالى بَيْنَ العِبَادِ ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾. يَوْمَ يَأْتِي الصَّغِيرُ وَالكَبِيرُ، وَالحَاكِمُ وَالمَحْكُومُ، وَالقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، وَالطَّائِعُ وَالعَاصِي، وَالبَرُّ وَالفَاجِرُ، وَالظَّالِمُ وَالمَظْلُومُ، وَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ، وَالسَّالِبُ وَالمَسْلُوبُ مِنْهُ، وَالنَّاهِبُ وَالمَنْهوبُ مِنْهُ، وَالمُرَوِّعُ وَالمُرَوَّعُ، يَوْمَ يَنْكَشِفُ الجَلِيلُ وَالحَقِيرُ، يَوْمَ يُسْأَلُ العَبْدُ عَنِ الخَرْدَلَةِ وَالقِطْمِيرِ وَالنَّقِيرِ.

يَوْمَ يُخَاصِمُ الوَالِدُ وَلَدَهُ، وَالوَلَدُ وَالِدَهُ، وَالأَخُ أُخْتَهُ، وَالأُخْتُ أَخَاهَا، وَيُخَاصِمُ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ، وَالحَاكِمُ المَحْكُومَ، وَالمَحْكُومُ الحَاكِمَ، وَالمَقْتُولُ القَاتِلَ، وَالمَظْلُومُ الظَّالِمَ، إِنَّهُ يَوْمٌ تَنْقَطِعُ فِيهِ المَعَاذِيرُ، وَتَبْلُغُ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ، وَتَخْشَعُ القُلُوبُ وَتُصْبِحُ وَاجِفَةً، وَتَعْنَتُ الوُجُوهُ للحَيِّ القَيُّومِ القَاهِرِ الجَبَّارِ.

يَا مَنْ زَلَّتْ بِهِ الجَوَارِحُ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: قُولُوا لِمَنْ زَلَّتْ بِهِ الجَوَارِحُ، وَمَا زَالَ على قَيْدِ الحَيَاةِ، يَا مَنْ زَلَّ بِهِ لِسَانُهُ فَلَمْ يَسْلَمْ أَحَدٌ مِنْهُ، وَيَا مَنْ زَلَّ بِهِ جَنَانُهُ فَلَمْ يَسْلَمْ أَحَدٌ مِنْ حِقْدِهِ وَحَسَدِهِ، وَيَا مَنْ زَلَّتْ بِهِ يَدُهُ فَسَفَكَ الدِّمَاءَ، وَسَلَبَ الأَمْوَالَ، وَيَتَّمَ الأَطْفَالَ، وَرَمَّلَ النِّسَاءَ، يَا مَنْ أَخْطَأَتْ جَوَارِحُهُ، يَا مَنْ حَمَلَ الذُّنُوبَ وَالخَطَايَا، يَا مَنِ اعْتَدَى على أَعْرَاضِ النَّاسِ، يَا مَنْ أَفْسَدَ الشَّبَابَ وَالشَّابَّاتِ، يَا مَنْ عَظُمَتْ إسَاءَتُهُ، يَا مَنْ سَمِعَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾. هَلْ تَعْلَمُ بِأَنَّ اللهَ تعالى يُنَادِيكَ؟

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: كُلُّنَا زَلَّتْ بِنَا جَوَارِحُنَا، وَكُلُّنَا وَقَعْنَا في الذُّنُوبِ، وَعَظُمَتْ إِسَاءَتُنَا عِنْدَ اللهِ تعالى عَلَّامِ الغُيُوبِ، وَلَكِنَّهُ وَللهِ الحَمْدُ هُوَ رَبٌّ رَحِيمٌ فَتَحَ أَمَامَنَا أَبْوَابَ المَغْفِرَةِ، فَنَادَانَا نِدَاءً يَهُزُّ القُلُوبَ، وَيَجْعَلُهَا تَرْجُو عَلَّامَ الغُيُوبِ، فَيَقُولُ: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.

ثمَّ بَيَّنَ لَنَا بَعْدَ هَذَا النِّدَاءِ بِأَنَّ لِهَذَا النِّدَاءِ وَقْتٌ مُؤَقَّتٌ، وَسَاعَاتٌ مَحْدُودَةٌ، هِيَ قَبْلَ فَوَاتِ الأَوَانِ، وَقَبْلَ المَمَاتِ، وَقَبْلَ وَقْتِ الحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ﴾.

يُنَادِينَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لِكَيْ نَتَدَارَكَ، لِكَيْ نُقْبِلَ عَلَيْهِ وَنَصْطَلِحَ مَعَهُ، لِكَيْ نُنِيبَ إِلَيْهِ، حَتَّى لَا تُصِيبَنَا الحَسْرَةُ، لِأَنَّهُ مَا أَعْظَمَهَا مِنْ حَسْرَةٍ ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ﴾. يُنَادِينَا حَتَّى لَا نَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا صِفْرَ اليَدَيْنِ، وَحَتَّى لَا تَنْطَوِيَ صَحَائِفُ أَعْمَالِنَا بِاللَّعَنَاتِ، وَحَتَّى لَا يُطْبَعَ على قُلُوبِنَا، وَحَتَّى لَا نَسْأَلَ الرَّجْعَةَ يَوْمَ لَا تَنْفَعُ فِيهِ المَعْذِرَةُ وَلَا تُغْنِي فِيهِ الدُّمُوعُ.

يَا مَنْ زَلَّتْ بِهِ الجَوَارِحُ، لَا تَكُنْ غَافِلَاً ظَالِمَاً، فَإِنَّ الغَفْلَةَ عَنِ اللهِ تعالى تُورِدُكَ المَهَالِكَ، وَتَجْعَلُكَ تَتَجَرَّأُ على حُقُوقِ الآخَرِينَ لِتَقْضِيَ بِذَلِكَ مَآرِبَكَ وَوَطَرَكَ، وَتُنْسِيكَ وُقُوفَكَ بَيْنَ يَدَي جَبَّارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَعِنْدَهَا تَعَضُّ يَدَيْكَ مِنَ النَّدَمِ، وَتَقُولُ: ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلَاً * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانَاً خَلِيلَاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولَاً﴾.

تَذَكَّرْ يَا أَخِي قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمَاً﴾. فَلَا تَكُنْ مِمَّنْ حَمَلَ ظُلْمَاً، لِأَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، في الدُّنْيَا يُسَلِّطُ اللهُ تعالى على الظَّالِمِ مَنْ هُوَ أَظْلَمُ مِنْهُ، وَيَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَأَمَّا في الآخِرَةِ يَكُونُ في ظُلُمَاتٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا. وَتُصَبُّ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ، قَالَ تعالى: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾.

يَا مَنْ زَلَّتْ بِهِ الجَوَارِحُ، أَسْرِعْ للتَّوْبَةِ للهِ تعالى، حَتَّى لَا تَكُونَ مُفْلِسَاً، لِأَنَّ حُقُوقَ العِبَادِ مَبْنِيَّةٌ على المُشَاحَّةِ، فَكُلُّ مَنْ ظَلَمْتَهُ يَنْتَظِرُكَ هُنَاكَ ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾. صَاحِبُ الدَّمِ يَنْتَظِرُكَ، وَصَاحِبُ المَالِ يَنْتَظِرُكَ، وَصَاحِبُ العِرْضِ يَنْتَظِرُكَ، فَهَذَا يَأْخُذُ مِنْ حَسَنَاتِكَ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِكَ، حَتَّى تَفنَى حَسَنَاتُكَ، وَيُطْرَحُ عَلَيْكَ مِنْ خَطَايَاهُمْ بِسَبَبِ ظُلْمِكَ لَهُمْ، ثمَّ تُطْرَحُ في النَّارِ؛ أَجَارَنَا اللهُ تعالى مِنْ ذَلِكَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ قَبْلَ المَوْتِ؟ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ في شَهْرِ التَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ؟ يَا مَنِ اسْتَغَلَّ نِعْمَةَ اللهِ تعالى في مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، إلى مَتَى؟ يَا مَنْ أَجْرَمَ وَعَاثَ في الأَرْضِ فَسَادَاً، وَوَقَعَ في الذُّنُوبِ وَالآثَامِ، وَتَعَدَّى على أَعْرَاضِ النَّاسِ، وعلى أَمْوَالِهِمْ، وَعلى دِمَائِهِمْ، إلى مَتَى؟ احْفَظْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾. فَهَلْ أَنْتَ ظَالِمٌ أَمْ مَظْلُومٌ؟

اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ للظَّالِمِينَ في أَبْدَانِنَا وَسْمَاً، وَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ في أَمْوَالِنَا قِسْمَاً، وَلَا تَجْعَلْ لَنَا في دَوَاوِينِهِمُ اسْمَاً. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 5/ رمضان /1437هـ، الموافق: 10/حزيران / 2016م