494ـ خطبة الجمعة: أقسام الناس في التذكير

.

494ـ خطبة الجمعة: أقسام الناس في التذكير

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ جَعَلَ اللهُ تعالى للإِنْسَانِ حَيَاتَيْنِ، الأُولَى في دَارِ الدُّنْيَا، حَيْثُ عَمَلٌ وَلَا جَزَاءٌ، وَالثَّانِيَةُ في الآخِرَةِ، حَيْثُ جَزَاءٌ وَلَا عَمَلٌ.

فَفِي الحَيَاةِ الأُولَى يَعْمَلُ فِيهَا الإنْسَانُ، لِيَجِدَ نَتَائِجَ عَمَلِهِ في الحَيَاةِ الثَّانِيَةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرَاً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيدَاً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: عُمُرُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيا عَرَفْنَا بِدَايَتَهُ، وَلَكِنَّ أَمَدَهُ مَجْهُولٌ عِنْدَنَا، لَا يَدْرِي الإِنْسَانُ مَتَى يُنَادِيهِ مُنَادِي اللهِ، لَكِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا نَادَاهُ فَلَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ لَحْظَةً، وَلَنْ تُتَاحَ لَهُ فُرْصَةٌ للتَّأَخُّرِ.

هَذَا العُمُرُ ثَمِينٌ جِدَّاً عِنْدَ العُقَلَاءِ، وَهُوَ رَأْسُ مَالِهِمْ، حَيْثُ يَسْتَغِلّونَهُ أَبْلَغَ اسْتِغْلَالٍ، وَلَا يُمْكِنُ للإِنْسَانِ أَنْ يَسْعَدَ دُنْيَا وَأُخْرَى إِذَا أَهْمَلَ عُمُرَهُ الذي هُوَ طَرِيقُ نَجَاتِهِ، وَطَرِيقُ سَعَادَتِهِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

شهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ التَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: شهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ التَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ، فَلَا نُضَيِّعْ هَذَا المَوْسِمَ، وَلَا نُفَرِّطْ في هَذِهِ الفُرْصَةِ، لِنَعُدْ إلى اللهِ تعالى، وَلْنُعَاوِدْ طَرْقَ بَابِ التَّوْبَةِ، فَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الصَّحِيحِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: يُنَادِينَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعَاً أَيُّهَ الْـمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحَاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

يَا حَسْرَةً على عَبْدٍ دُعِيَ في أَوَّلِ رَمَضَانَ إلى التَّوْبَةِ وَلَمْ يَسْتَجِبْ، إِذَا لَمْ يَرْجِعْ أَحَدُنَا إلى اللهِ بِالتَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ في شَهْرِ رَمَضَانَ، فَمَتَى يَرْجِعُ؟ وَإِذَا لَمْ يَتُبْ أَحَدُنَا إلى اللهِ تعالى في شَهْرِ رَمَضَانَ، فَمَتَى يَتُوبُ؟ إِنَّ أَقْرَبَ غَائِبٍ نَنْتَظِرُهُ هُوَ المَوْتُ.

فَيَا مَنْ أَسْرَفَ على نَفْسِهِ بِالذُّنُوبِ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، وَيَا مَنْ سَفَكَ الدِّمَاءَ البَرِيئَةَ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، وَيَا مَنْ أَكَلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، وَيَا مَنْ جَعَلَ عَلَاقَةً غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ مَعَ النِّسَاءِ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، وَيَا مَنْ أَكَلَ المِيرَاثَ بِغَيْرِ حَقٍّ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، وَيَا مَنْ وَقَعَ في العُقُوقِ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، وإلا تَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْـمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْـمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوَىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾؟

أَقْسَامُ النَّاسِ في التَّذَكِيْرِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ قَسَّمَ اللهُ تعالى النَّاسَ في سَبِيلِ الذِّكْرَى إلى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

الأَوَّلُ: نَاسٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَحَمُّلَ الذِّكْرَى وَلَا سَمَاعَهَا، بَلْ يَكْرَهُونَ الذِّكْرَى وَالمُذَكِّرَ، هَؤُلَاءِ قَالَ تعالى في حَقِّهِمْ: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفَاً مُنَشَّرَةً﴾.

الثَّانِي: نَاسٌ يَسْمَعُونَ بِآذَانِهِمْ دُونَ قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ صَارَتْ مَخْتُومَاً عَلَيْهَا بِالذُّنُوبِ وَالآثَامِ، وَلَمْ يَتُوبُوا إلى اللهِ تعالى مِنْهَا، هَؤُلَاءِ قَالَ تعالى في حَقِّهِمْ: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفَاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾. هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾.

الثَّالِثُ: نَاسٌ يَسْمَعُونَ مَا يُعْجِبُهُمْ مِمَّنْ يُعْجِبُهُمْ، وَلَا يَسْمَعُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ، هَؤُلَاءِ لَا يَسْمَعُونَ الذِّكْرَى، بَلْ يَسْمَعُونَ مِنَ الأَشْخَاصِ، وَلَو كَانُوا على ضَلَالٍ، هَؤُلَاءِ قَالَ تعالى في حَقِّهِمْ: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾.

الرَّابِعُ: نَاسٌ يَسْمَعُونَ الذِّكْرَى وَخَاصَّةً مِنْ رَبِّهِمْ وَنَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْتَغِلُّونَهَا الاسْتِغْلَالَ الصَّحِيحَ، هَؤُلَاءِ الذينَ قَالَ اللهُ تعالى عَنْهُمْ: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾. وَقَالَ عَنْهُمْ: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْـمُؤْمِنِينَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: لِيُصَنِّفْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ، مِنْ أَيِّ الأَقْسَامِ هُوَ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: اسْتَغِلُّوا شَهْرَ رَمَضَانَ بِالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ وَالإِنَابَةِ إلى اللهِ تعالى، لِأَنَّهُ وَاللهِ لَيْسَ لَنَا إلا اللهُ، فَهُوَ رَبُّنَا الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ الذي يُنَادِينَا بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.

وَيُنَادِينَا في شَهْرِ رَمَضَانَ: «يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْـصِرْ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. فَهَلْ مِنْ مُسْتَجِيبٍ؟

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، لَا مِنَ الذينَ قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 5/ رمضان /1437هـ، الموافق: 10/حزيران / 2016م