14-دروس رمضانية 1437هـ: لماذا لا تتحرك القلوب؟

.

دروس رمضانية 1437هـ

14ـ لماذا لا تتحرك القلوب؟

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: آفَاتُ هَذَا العَصْرِ وَأَمْرَاضُهُ كَثِيرَةٌ وَخَطِيرَةٌ، مِنْهَا وَقَعَ على الأَبْدَانِ، وَمِنْهَا وَقَعَ على القُلُوبِ، وَأَشَدُّ تِلْكَ الآفَاتِ وَالأَمْرَاضِ مَرَضٌ خَطِيرٌ يَجْعَلُ المُصَابَ بِهِ أَصَمَّ وَأَعْمَى وَأَبْكَمَ مِنَ الجَمَادَاتِ، هَذَا المَرَضُ هُوَ قَسْوَةُ القَلْبِ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ.

صَاحِبُ القَلْبِ القَاسِي عَيْنُهُ لَا تَدْمَعُ، وَقَلْبُهُ لَا يَخْشَعُ، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ اللهِ تعالى التي تَهُدُّ الجِبَالَ الرَّاسِيَاتِ، قَالَ تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾. لَا تُحَرِّكُ في قَلْبِهِ شَيْئَاً، لِأَنَّ قَلْبَهُ صَارَ أَقْسَى مِنَ الحِجَارَةِ، قَالَ تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْـمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾. وَصَاحِبُ القَلْبِ القَاسِي مُضَيِّعٌ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ.

لِمَاذَا لَا تَتَحَرَّكُ القُلُوبُ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَدَبَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى في حَقِّ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَاً﴾.

آيَاتُ اللهِ تعالى تَتَجَلَّى عَلَيْنَا في كُلِّ نَفَسٍ مِنْ أَنْفَاسِنَا، وَلَكِنْ أَيْنَ مَنْ يَقِفُ وِقْفَةَ المُتَأَمِّلِ، وَوِقْفَةَ المُتَدَبِّرِ، وَوِقْفَةَ الهَيْبَةِ وَالاسْتِشْعَارِ؟ لِمَاذَا لَا تَتَغَيَّرُ القُلُوبُ؟ وَلِمَاذَا لَا تَتَحَرَّكُ سُوَيْدَاؤُهَا؟ وَلِمَاذَا لَا تَتَحَرَّكُ مَشَاعِرُهَا؟ هَلْ صَارَتْ أَقْسَى مِنَ الحَجَرِ؟

يَقُولُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: مَا ابْتَلَى اللهُ قَوْمَاً بِشَيْءٍ أَعْظَمَ مِنْ قَسْوَةِ قَلْبٍ، قَالَ تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا كَانَ القَلْبُ مُعْرِضَاً عَنِ اللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ فَهُوَ قَلْبٌ قَاسٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ القَلْبُ مُقْبِلَاً على اللهِ تعالى وَمُعْرِضَاً عَنْ غَيْرِ اللهِ تعالى فَهَذَا هُوَ القَلْبُ اللَّيِّنِ.

سَبَبُ قَسْوَةِ القَلْبِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سَبَبُ قَسْوَةِ القَلْبِ دُخُولُ الدُّنْيَا فِيهِ، حَتَّى تُصْبِحَ إِلَاهَاً عَلَيْهِ، وَيُصْبِحَ صَاحِبُ القَلْبِ عَبْدَاً لَهَا، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

يَا مَنْ قَسَا قَلْبُهُ بِسَبَبِ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا، تَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْـمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْـمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْـمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَكُنْ على حَذَرٍ مِنَ الانْشِغَالِ بِالدُّنْيَا، فَإِنَّ الانْشِغَالَ فِيهَا قَدْ يُوقِعُنَا بِالغَفْلَةِ عَنِ اللهِ تعالى، والتي هِيَ بِدَايَةُ قَسْوَةِ القَلْبِ.

روى الإمام مسلم عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ  قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟

قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ.

قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! مَا تَقُولُ؟

قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرَاً.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا.

فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا ذَاكَ؟».

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرَاً.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَـفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْـمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الانْشِغَالُ في الدُّنْيَا بِالكُلِّيَّةِ يُضْعِفُ الإِيمَانَ، وَيَبْدَأُ بِالقَسْوَةِ شَيْئَاً فَشَيْئَاً، لِذَلِكَ أَمَرَنَا اللهُ تعالى بِالإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تعالى، لِأَنَّ ذِكْرَ اللهِ تعالى سَبَبٌ لِطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا فَقَدَتِ الأُمَّةُ رِقَّةَ القَلْبِ عَظُمَ البَلَاءُ، وَاشْتَدَّ العَنَاءُ، وَكَانَتْ سَبَبَاً في صَبِّ البَلَاءِ، بَلْ يَتَحَقَّقُ وَعِيدُ اللهِ تعالى الشَّدِيدُ، وَعَذَابُهُ الأَكِيدُ، قَالَ تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.

وَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تعالى، وَيْلٌ لِقُلُوبٍ تَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تعالى تُتْلَى عَلَيْهَا، وَهُمْ يَقُولُونَ: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾.

وَيْلٌ لِعُيُونٍ لَا تَدْمَعُ، وَلِقُلُوبٍ لَا تَخْشَعُ، وَلَا تَعْرِفُ الشَّفَقَةَ وَالرَّحْمَةَ على خَلْقِ اللهِ تعالى.

وَيْلٌ لِمَنْ قَـسَا قَلْبُهُ وَهُوَ يَدَّعِي الإِسْلَامَ، وَالسَّيْرَ على طَرِيقِ سَلَفِ الأُمَّةِ، وَسَلَفُ الأُمَّةِ وَخَلَفُهَا مِنْهُ بَرَاءٌ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ عَيْنٍ لَا تَدْمَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 7/ رمضان /1437هـ، الموافق: 12/ حزيران / 2016م