20-دروس رمضانية 1437هـ: شهد شهر رمضان لسلفنا، فبماذا يشهد لنا؟

.

دروس رمضانية 1437هـ

20ـ شهد شهر رمضان لسلفنا، فبماذا يشهد لنا؟

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: دِينُنَا دِينُ القِيَمِ وَالأَخْلَاقِ، دِينُنَا كُلُّهُ مَحَاسِنٌ، وَمِنْ مَحَاسِنِ هَذَا الدِّينِ أَنَّ اللهَ تعالى شَرَعَ لَنَا فِيهِ المُوَاسَاةَ، لِأَنَّ المُوَاسَاةَ تَتَضَمَدُ الجِرَاحَ، وَهَذَا مِنْ حَقِّ المُسْلِمِ على أَخِيهِ، فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ في ابْتِلَاءٍ وَجَبَ على المُسْلِمِينَ أَنْ يَلْتَفُّوا حَوْلَهُ، لِيُضَمِّدُوا جِرَاحَهُ، وَيَجْبُرُوا كَسْرَهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا أَجْمَلَ المُوَاسَاةَ التي تَزْرَعُ في القُلُوبِ المَوَدَّةَ وَالمَحَبَّةَ وَالإِخْلَاصَ، مَا أَجْمَلَ المُوَاسَاةَ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ مِنَ الأَدْنَى إلى الأَعْلَى، وَمِنَ المَفْضُولِ إلى الفَاضِلِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ؛ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي».

جِيلٌ مُتَرَابِطٌ كَالبُنْيَانِ المَرْصُوصِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بِالمُوَاسَاةِ لِأَصْحَابِ الابْتِلَاءَاتِ نَجْعَلُ جِيلَاً مُتَرَابِطَاً كَالبُنْيَانِ المَرْصُوصِ، جِيلَاً مُتَرَابِطَاً مُتَآخِيَاً يَشُدُّ بَعْضُهُ أَزْرَ بَعْضٍ، وَلَقَد ضَرَبَ لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ لِهَذِهِ المُوَاسَاةِ التي جَعَلَتِ الأُمَّةَ مُتَرَاحِمَةً مُتَمَاسِكَةً يَشُدُّ بَعْضُهَا أَزْرَ بَعْضٍ.

عِنْدَمَا هَاجَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، آخَى بَيْنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ في دَارِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلَاً، نِصْفُهُمْ مِنَ المُهَاجِرِينَ، وَنِصْفُهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ، آخَى بَيْنَهُمْ على المُوَاسَاةِ، وعلى أَنْ يَتَوَارَثُوا بَعْدَ المَوْتِ دُونَ ذَوِي الأَرْحَامِ، حَتَّى جَاءَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى، وَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾. فَرَدَّ التَّوَارُثَ دُونَ عَقْدِ الأُخُوَّةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذِهِ هِيَ الأُخُوَّةُ التي جَعَلَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، لَمْ تَكُنْ عَقْدَاً شَكْلَاً فَارِغَاً مِنْ مَضْمُونِهِ، بَلْ كَانَتْ عَقْدَاً يَرْتَبِطُ بِالدِّمَاءِ وَالأَمْوَالِ.

لَمْ تَكُنِ الأُخُوَّةُ بَيْنَهُمْ تَحِيَّةً لَا يَقُومُ لَهَا أَثَرٌ، بَلْ كَانَتْ أُخُوَّةً مَبْنِيَّةً على أَسَاسٍ مِنَ الإِيثَارِ وَالمُوَاسَاةِ وَالمُؤَانَسَةِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ.

فَقَالَ سَعْدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالَاً، فَأَقْسِمُ مَالِي نِصْفَيْنِ، وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَسَمِّهَا لِي أُطَلِّقْهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا.

قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، أَيْنَ سُوقُكُمْ؟

فَدَلُّوهُ عَلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَمَا انْقَلَبَ إِلَّا وَمَعَهُ فَضْلٌ مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ (جُبْنُ اللَّبَنِ).

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ عَرَّفَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ المُبَارَكَ هُوَ شَهْرُ المُوَاسَاةِ، فَأَيْنَ هَذِهِ المُوَاسَاةُ بَيْنَنَا؟ وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ مُوَاسَاةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ لِبَعْضِهِمْ؟

شَهْرُ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ المُوَاسَاةِ، بَعْدَ أَيَّامٍ سَتُطْوَى أَيَّامُهُ وَتُرْفَعُ إلى اللهِ تعالى، فَبِمَاذَا سَيَشْهَدُ عَلَيْنَا شَهْرُ المُوَاسَاةِ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ شَهِدَ شَهْرُ رَمَضَانَ لِسَلَفِنَا الصَّالِح، بِأَنَّهُمْ كَانُوا إِخْوَةً على غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، عَرَفُوا قِيمَةَ الإِخَاءِ فَلَزِمُوهُ، وَعَرَفُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ» رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا. فَكَانُوا بِحَقٍّ إِخْوَةً وَأَحْبَابَاً.

شَهِدَ شَهْرُ رَمَضَانَ لِسَلَفِنَا الصَّالِح، بَعَثَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَوْمَاً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي قَضَاءِ حَاجَةٍ لِرَجُلٍ وَقَالَ لَهُمْ: مُرُّوا بِثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، فَخُذُوهُ مَعَكُمْ، فَأَتَوْا ثَابِتَاً، فَقَالَ: أَنَا مُعْتَكِفٌ.

فَرَجَعُوا إِلَى الْحَسَنِ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ: يَا أَعْمَشُ، أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ مَشْيَكَ فِي حَاجَةِ أَخِيكَ الْـمُسْلِمِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةٍ؟

فَرَجَعُوا إِلَى ثَابِتٍ، فَتَرَكَ اعْتِكَافَهُ، وَذَهَبَ مَعَهُمْ.

وَأَمَّا اليَوْمَ، فَيَشْهَدُ شَهْرُ رَمَضَانَ على البَعْضِ بِأَنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا العَدَاوَةِ بِالإِخَاءَ، وَالخُصُومَةَ بِالصَّفَاءِ، وَرَضُوا بِالتَّبَاغُضِ وَالشَّحْنَاءِ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا إِخْوَانَاً كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

اليَوْمَ يَشْهَدُ شَهْرُ رَمَضَانَ على البَعْضِ بِأَنَّهُمُ يَسْفِكُ بَعْضُهُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ، في شَهْرِ المُوَاسَاةِ، وَكَأَنَّهُ لَـمْ يَنْتَهِ إِلَيْهِمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارَاً، يَـضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 10/ رمضان /1437هـ، الموافق: 15/ حزيران / 2016م