21-دروس رمضانية 1437هـ : ما هو همك؟

.

دروس رمضانية 1437هـ

21ـ ما هو همك؟

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الحَيَاةَ حَقِيقَةً هِيَ حَيَاةُ القُلُوبِ، وَلَيْسَتْ حَيَاةَ الأَبْدَانِ، فَالمَاءُ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَذِكْرُ اللهِ تعالى يُحْيِي القُلُوبَ بَعْدَ مَوْتِهَا، قَالَ تعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْـمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْـمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾. فَنُزُولُ المَاءِ وَإِحْيَاءُ الأَرْضِ دَلِيلٌ على قُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ على إِحْيَاءِ النَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَبَعْثِهِمْ وَنَشْرِهِمْ ثمَّ حِسَابِهِمْ، ثمَّ يَتَقَرَّرُ المَصِيرُ إِمَّا إلى جَنَّةٍ، وإِمَّا إلى نَارٍ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: قَضِيَّةُ إِحْيَاءِ المَوْتَى، وَبَعْثِهِمْ، وَنَشْرِهِمْ، وَحِسَابِهِمْ، قَضِيَّةٌ يَجِبُ أَنْ تَأْخُذَ حَيِّزَاً مِنْ فِكْرِنَا وَوَقْتِنَا، وَأَنْ تَأْخُذَ حَيِّزَاً مِنْ قُلُوبِنَا، لِأَنَّ القُلُوبَ إِذَا حَيِـيَتْ ـ وَلَا حَيَاةَ لَهَا بِغَيْرِ ذَِكْرِ اللهِ تعالى ـ اسْتَعَدَّتْ لِلِقَاءِ اللهِ تعالى، وَإِذَا نَسِيَتْ وَغَفَلَتْ وَقَسَتْ ابْتَعَدَتْ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَخَـسِرَتِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.

مَا هُوَ هَمُّكَ؟

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِيُفَكِّرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا في نَفْسِهِ، وَليَتَسَاءَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ: مَا هُوَ هَمِّي؟ هَلِ الدُّنْيَا هَمِّي، أَمِ الآخِرَةُ؟

تَدَبَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾.

تَدَبَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

تَدَبَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.

تَدَبَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومَاً مَدْحُورَاً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورَاً * كُلَّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورَاً﴾.

بَلْ تَدَبَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحَاً جَمِيلَاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرَاً عَظِيمَاً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في حَقِّ الفَرِيقَيْنِ: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

حَدِيثٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَحْوَالُ النَّاسِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: أَحْوَالُ النَّاسِ مُتَبَايِنَةٌ، فَمِنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ هَمِّ الدُّنْيَا، وَمِنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ هَمِّ الآخِرَةِ، وَمِنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ هَمِّ الدُّنْيَا َالآخِرَةِ، وَهُمُ المُخَلِّطُونَ.

يَقُولُ يَحْيَى بِنُ مُعَاذٍ: النَّاسُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ: رَجُلٌ شَغَلَةُ مَعَادُهُ عَنْ مَعَاشِهِ، وَرَجُلٌ شَغَلَهُ مَعَاشُهُ عَنْ مَعَادِهِ، وَرَجُلٌ مَشْغُولٌ بِهِمَا جَمِيعَاً، فَالأُولَى دَرَجَةُ الْفَائِزِينَ، وَالثَّانِيَةُ دَرَجَةُ الْهَالِكِينَ، وَالثَالِثَةُ دَرَجَةُ الْـمُخَاطِرِينَ. اهـ. فَلْيُصَنِّفْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ مِنْ أَيِّ الأَصْنَافِ هُوَ؟

مَنْ كَانَ هَمُّهُ الآخِرَةَ؟

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: أَصْحَابُ هَمِّ الآخِرَةِ تَرَاهُمْ في حُزْنٍ شَدِيدٍ إِذَا وَقَعَ أَحَدُهُم في ذَنْبٍ، لِأَنَّهُ يَرَى ذَنْبَهُ كَجَبَلٍ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ على رَأْسِهِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ.

فَكِّرْ في نَفْسِكَ، هَلْ تَحْزَنُ إِذَا فَاتَتْكَ صَلَاةٌ مِنَ الصَّلَوَاتِ، هَلْ تَحْزَنُ إِذَا وَقَعْتَ في ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ؟ هَلْ تَحْزَنُ إِذَا كَانَتْ أَخْلَاقُكَ ضَيِّقَةً؟ هَلْ تَحْزَنُ إِذَا وَقَعْتَ في ظُلْمٍ؟

مَوْقِفٌ مِنْ مَوَاقِفِ سَيِّدِنَا الحَسَنِ البَصْريِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مَنْ حَمَلَ هَمَّ الآخِرَةِ، وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا تَرَى مِنْهُ العَجَبَ العُجَابَ؛ هَذَا سَيِّدُنَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، يُحَدِّثُنَا عَنْهُ تِلْمِيذُهُ صَالِحُ بْنُ حَسَّانَ، قَالَ: أَمْسَى الْحَسَنُ صَائِمَاً فَجِئْنَاهُ بِطَعَامٍ عِنْدَ إِفْطَارِهِ؛ فَلَمَّا قُرِّبَ إِلَيْهِ عَرَضَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالَاً وَجَحِيمَاً * وَطَعَامَاً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابَاً أَلِيمَاً﴾. فَقَلَصَتْ يَدُهُ عَنْهُ؛ فَقَالَ: ارْفَعُوهُ؛ فَرَفَعْنَاهُ.

قَالَ: فَأَصْبَحَ صَائِمَاً، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ ذَكَرَ الْآيَةَ فَفَعَلَ ذَلِكَ أَيْضَاً؛ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ انْطَلَقَ ابْنُهُ إِلَى ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَيَحْيَى الْبَكَّاءِ وَأُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ فَقَالَ: أَدْرِكُوا أَبِي فَإِنَّهُ لَمْ يَذُقْ طَعَامَاً مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، كُلَّمَا قَرَّبْنَا إِلَيْهِ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالَاً وَجَحِيمَاً﴾. فَقَرَأَهَا.

قَالَ: فَأَتَوْهُ فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَسْقَوْهُ شَرْبَةً مِنْ سَوِيقٍ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا غَلَبَهُ هَمُّ الآخِرَةِ، جَعَلَهُ لَا يَشْتَهِي طَعَامَاً رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَأَرْضَاهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ جَعَلَ الآخِرَةَ هَمَّهُ، وَاشْتَغَلَ بِأَمْرِهَا، فَإِنَّ اللهَ تعالى لَا يَنْسَاهُ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَّاً﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾. هَلْ رَأَيْنَا دَابَّةً تَحْمِلُ رِزْقَهَا وَتَجْمَعُهُ؟

دَخَلَ بُهْلُولٌ على أَحَدِ الخُلَفَاءِ فَقَامَ يُحَدِّثُهُ وَيَعِظُهُ؛ فَتَأَثَّرَ ذَاكَ الخَلِيفَةُ، وَكَأَنَّهُ طَمِعَ أَنْ يُعْطِيَهُ وَأَنْ يُحْذِيَهُ وَأَنْ يَمْنَحَهُ مِنَ المَالِ شَيْئَاً، فَقَالَ: خُذْ.

فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِ.

فَقَالَ الخَلِيفَةُ: يَا بُهْلُولُ، مَنِ الذي يُعْطِيكَ طَعَامَاً وَشَرَابَاً؟ وَمِنْ أَيْنَ تَأْتِي بِالمَالِ؟

فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الذي يَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ المَجَانِينِ، وَهُوَ مِنْ أَعْقَلِ العُقَلَاءِ، الْتَفَتَ إلى الخَلِيفَةِ قَائِلَاً: أَتَظُنُّ أَنَّ الذي أَعْطَاكَ المُلْكَ وَالخِلَافَةَ يَنْسَانِي؟

اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَمَّنَا الآخِرَةَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 10/ رمضان /1437هـ، الموافق: 15/ حزيران / 2016م