22-دروس رمضانية 1437هـ:«لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ»

.

دروس رمضانية 1437هـ

22ـ «لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ سَلَامَةَ القَلْبِ وَطَهَارَتَهُ وَنَقَاءَهُ مِنَ الحِقْدِ وَالغِلِّ وَالحَسَدِ وَاجِبٌ على الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ، لِأَنَّ أَهَمَّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ سَلَامَةُ صُدُورِهِمْ على إِخْوَانِهِمُ السَّابِقِينَ وَاللَّاحِقِينَ، قَالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾. يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ السَّلَفُ الصَّالِحُ ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلَّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

سَلَامَةُ القَلْبِ وَطَهَارَتُهُ مِنَ الصِّفَاتِ النَّاقِصَةِ بُغْيَةُ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ الذي يَطْمَعُ بِجَنَّةِ اللهِ تعالى، لِأَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةٌ وَلَا يَدْخُلُهَا إلا طَيِّبٌ، أَوَلَيْسَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ في كِتَابِهِ العَظِيمِ في وَصْفِ أَهْلِ الجَنَّةِ: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانَاً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾. أَيْ: نَزَعْنَا مِنْ صُدُورِهِمْ كُلَّ حَسَدٍ وَبُغْضٍ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَخْلُصُ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا».

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: دَخَلَ على أَبِي دُجَانَةَ إِخْوَانُهُ فِي مَرَضِهِ وَوَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ تَهَلُّلِ وَجْهِهِ؟

فَقَالَ: مَا مِنْ عَمَلٍ أَوْثَقُ عِنْدِي مِنْ خَصْلَتَيْنِ، كُنْتُ لَا أَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، وَكَانَ قَلْبِي سَلِيمَاً لِلْمُسْلِمِينَ.

سُوءُ الطَّوِيَّةِ مِنْ صِفَاتِ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: إِنَّ صِفَةَ المُسْلِمِينَ صَفَاءُ نُفُوسِهِمْ مِنَ الغِشِّ وَالحَسَدِ وَالغَدْرِ وَالضَّغِينَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ هِيَ صِفَاتُ المُنَافِقِينَ، قَالَ تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾.

وقَالَ تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارَاً حَسَدَاً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئَاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: هَلْ يَرْضَى الإِنْسَانُ المُؤْمِنُ أَنْ يَتَّصِفَ بِصِفَاتِ المُنَافِقِينَ الكَافِرِينَ؟

«لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ»:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مَسْأَلَةُ سَلَامَةِ الصَّدْرِ للنَّاسِ دَائِمَاً، لَيْسَ فِيهِ غِشٌّ وَلَا حِقْدٌ وَلَا حَسَدٌ على أَحَدٍ، إِنَّهَا مَسْأَلَةٌ صَعْبَةٌ وَلَيْسَتْ سَهْلَةً إلا على مَنْ يَسَّرَهَا اللهُ تعالى عَلَيْهِ، وَوَفَّقَهُ لِمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْـمُحْسِنِينَ﴾.

لَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَلْتَمِسُونَ إِزَالَةَ أَيِّ شَيْءٍ يَحْصُلُ في صَدْرِ الأَخِ على أَخِيهِ.

روى الإمام مسلم عَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، أَتَى عَلَى سَلْمَانَ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ، فَقَالُوا: وَاللهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللهِ مَأْخَذَهَا.

قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟

فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ».

فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا إِخْوَتَاهْ أَغْضَبْتُكُمْ؟

قَالُوا: لَا؛ يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَخِي.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: انْظُرُوا إلى مُسَارَعَةِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ للاعْتِذَارِ، وَهَذَا دَلِيلٌ على سَلَامَةِ صَدْرِهِ، وَبِالمُقَابِلِ انْظُرُوا إلى الآخَرِينَ عِنْدَمَا أَسْرَعُوا للاسْتِجَابَةِ، وَطَيَّبُوا خَاطِرَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وَدَعَوا لَهُ بالمَغْفرَةِ، لَقَدْ كَانَتْ مُنَاشَدَةُ الصِّدِّيقِ لِأَصْحَابِهِ بِأُسْلُوبٍ في غَايَةِ الأَدَبِ وَالمَحَبَّةِ: يَا إِخْوَتَاهْ أَغْضَبْتُكُمْ؟ تِلْكَ أَخْلَاقُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وَأَجَابُوهُ بِنَفْسِ الشُّعُورِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم.

لَتَشْتُمُنِي وَفِيَّ ثَلَاثُ خِصَالٍ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يَقُولُ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا كَلِمَاتٍ تَدُلُّ على صَلَاحِ قَلْبِهِ وَنَقَائِهِ، وَحُبِّهِ الخَيْرَ لِجَمِيعِ النَّاسِ.

روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: شَتَمَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ.

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا: إِنَّكَ لَتَشْتُمُنِي وَفِيَّ ثَلَاثُ خِصَالٍ: إِنِّي لَآتِي عَلَى الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَوَدِدْتُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ مِنْهَا مَا أَعْلَمُ مِنْهَا، وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ مِنْ حُكَّامِ الْـمُسْلِمِينَ يَعْدِلُ فِي حُكْمِهِ فَأَفْرَحُ بِهِ، وَلِعَلِّي لَا أُقاضِي إِلَيْهِ أَبَدَاً، وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ قَدْ أَصَابَ الْبَلَدَ مِنْ بِلَادِ الْـمُسْلِمِينَ فَأَفْرَحُ، وَمَا لِي بِهِ مِنِ سَائِمَةٍ.

مَا هَذَا الصَّفَاءُ وَالنَّقَاءُ الذي كَانَ في قُلُوبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ حُبُّ الخَيْرِ للآخَرِينَ دَلِيلٌ على طَهَارَةِ قُلُوبِهِمْ مِنَ الحِقْدِ وَالغِلِّ وَالحَسَدِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِمَاذَا لَا نَعِيشُ حَيَاتَنَا الدُّنْيَا بِسَلَامَةِ صُدُورِنَا مِنَ الأَحْقَادِ وَالتَّبَاغُضِ وَالحَسَدِ؟ لِمَاذَا لَا نَعِيشُ حَيَاةَ أَهْلِ الجَنَّةِ في دُنْيَانَا الفَانِيَةِ التي لَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؟

فَيَا مَنْ أَرَادَ اللهَ تعالى وَاليَوْمَ الآخِرَ، طَهِّرْ قَلْبَكَ مِنْ صِفَاتِ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ، وَجَمِّلْهُ بِصِفَاتِ أَهْلِ الجَنَّةِ.

روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا، وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ، أَمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ (أَيْ: مَبَاخِرُهُمُ العُودُ) وَرَشْحُهُمُ (أَيْ: عَرْفُهُم) المِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ (الـُمرَادُ :الصَّفَاءُ البَالِغُ ،وَأَنَّ مَا دَاخِلَ العَظمِ لا يَستَتِرُ) لَا اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ وَلاَ تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللهَ بُكْرَةً وَعَشِيَّاً».

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: المُسْلِمُ الحَقُّ هُوَ صَاحِبُ الصَّدْرِ السَّلِيمِ، وَالذي يُحْسِنُ الظَّنَّ بِخَلْقِ اللهِ جَمِيعَاً، وَيَقْبَلُ الأَعْذَارَ، وَيُحْيِي سُنَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ «إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ».

اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنْ كُلِّ وَصْفٍ يُبَاعِدُنَا عَنْ مَحَبَّتِكَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 11/ رمضان /1437هـ، الموافق: 16/ حزيران / 2016م