25-دروس رمضانية 1437هـ:﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾

.

دروس رمضانية 1437هـ

25ـ ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدِ اسْتَحْكَمَتِ الغَفْلَةُ على حَيَاةِ كَثِيرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، حَتَّى أَنْسَتْهُمُ اليَوْمَ الآخِرَ، قَالَ تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾.

الغَفْلَةُ اسْتَحْكَمَتْ على القُلُوبِ فَشَغَلَتْهُمُ الدُّنْيَا عَنِ الاسْتِعْدَادِ لليَوْمِ الآخِرِ الذي هُوَ المُوَجِّهُ الحَقِيقِيُّ لِسُلُوكِ الإِنْسَانِ، فَالمُؤْمِنُ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ سُلُوكُهُ يُغَايِرُ سُلُوكَ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ.

مَنْ آمَنَ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةٌ للآخِرَةِ، وَأَنَّ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ هِيَ زَادُهُ إلى الآخِرَةِ، فَأَقْبَلَ على الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَتَزَوَّدَ مِنْهَا، امْتِثَالَاً لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.

وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ أَقْبَلَ على الدُّنْيَا، وَجَعَلَهَا هَمَّهُ الأَوْحَدَ، قَالَ تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومَاً مَدْحُورَاً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورَاً * كُلَّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورَاً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ الحَكِيمُ مَا تَرَكَ النَّاسَ سُدَىً، وَلَا خَلَقَهُمْ عَبَثَاً، تعالى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوَّاً كَبِيرَاً، قَالَ تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثَاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْـمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدَىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْـمَوْتَى﴾. بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّي إِنَّهُ لَقَادِرٌ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.

التَّذْكِيرُ بِشِدَّةِ الأَهْوَالِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: الشِّدَّةُ الحَقِيقِيَّةُ، وَالأَهْوَالُ المُخِيفَةُ عِنْدَمَا يُنْفَخُ في الصُّورِ، فَيُصْعَقُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ في الأَرْضِ، قَالَ تعالى مُذَكِّرَاً بِأَهْوَالِ يَوْمِ القِيَامَةِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾.

وَقَالَ تعالى مُصَوِّرَاً تِلْكَ الشَّدَائِدِ: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَوْ كَانَ الإِيمَانُ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ خَالَطَ بَشَاشَةَ القُلُوبِ، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا لَمَا رَأَيْتَ القُلُوبَ في حَالَةِ غَفْلَةٍ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِيَسْمَعْ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ، قَالَ تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفَاً * فَيَذَرُهَا قَاعَاً صَفْصَفَاً * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجَاً وَلَا أَمْتَاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسَاً﴾.

اسْمَعْ يَا مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْـمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾.

﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِيَتَصَوَّرْ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾. خُرُوجٌ مِنَ القُبُورِ، وَسَيْرٌ إلى أَرْضِ المَحْشَرِ، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعَاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسَاً﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمَاً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: تَصَوَّرُوا هَذَا السَّوْقَ إلى أَرْضِ المَحْشَرِ في سُكُونٍ وَخُشُوعٍ، لَا تَسْمَعُ مِنْ أَهْلِ المَحْشَرِ إلا أَصْوَاتَ الأَقْدَامِ وَالهَمَسَاتِ، ثمَّ يَقْبِضُ الجَبَّارُ السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ، وَالأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثمَّ يَقُولُ: أَنَا الْـمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْـمُتَكَبِّرُونَ؟ رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعَاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.

روى الإمام مسلم عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ كَيْفَ يَحْكِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَأْخُذُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ، فَيَقُولُ: أَنَا اللهُ ـ وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا ـ أَنَا الْـمَلِكُ» حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّهَا المَسْؤُولِيَّةُ العَظِيمَةُ الجَلِيلَةُ الخَطِيرَةُ، مَسْؤُولِيَّةُ الآخِرَةِ، جَمِيعُ الأُمَمِ حُشِرَتْ في ذَلِكَ المَشْهَدِ العَظِيمِ للعَرْضِ وَالحِسَابِ، حَيْثُ أُعِدَّتْ لَهَا الدَّرَجَاتُ وَالدَّرَكَاتُ، كُلٌّ على حَسْبِ عَمَلِهِ.

إِنَّهُ اليَوْمُ الذي يَجْمَعُ اللهُ فِيهِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، مِنْ أَجْلِ السُّؤَالِ، وَهُنَاكَ تَغُصُّ الحَنَاجِرُ بِغُصَصِهَا، هُنَاكَ: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الـْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.

هُنَاكَ فَصْلُ القَضَاءِ وَالكُلُّ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُهُمْ، تَنْتَظِرُ حُكْمَ اللهِ تعالى فِيهِمْ، أَفِي الجَنَّةِ أَمْ في النَّارِ يَكُونُ القَرَارُ؟ كُلُّ فَرْدٍ مَسْؤُولٌ ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدَّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدَاً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مَاذَا يَقُولُ أَحَدُنَا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَمَا يَأْتِيهِ فَرْدَاً، وَقَدْ نُصِبَتْ أَمَامَهُ المَوَازِينُ، وَنُشِرَتْ سِجِلَّاتُ أَعْمَالِهِ، وَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَاهِدَاً؟

هُنَاكَ حَيْثُ يَقِفُ العَبْدُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ، فَيُنَادِي المُنَادِي: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانَةٍ، قُمْ للعَرْضِ على اللهِ؛ هُنَاكَ يُدْعَى أَمَامَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ؛ ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْـمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرَاً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَاً﴾. أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ لَا يُخْزِيَنَا يَوْمَ القِيَامَةِ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

السبت: 13/ رمضان /1437هـ، الموافق: 18/ حزيران / 2016م