26-دروس رمضانية 1437هـ:عرض الظالمين على رب العالمين

.

دروس رمضانية 1437هـ

26ـ عرض الظالمين على رب العالمين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أَخْبَرَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَنْ حَقِيقَةٍ غَفَلَ عَنْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ بِسَبَبِ طُغْيَانِ المَادَّةِ وَالشَّهَوَاتِ، هَذِهِ الحَقِيقَةُ تَسَرْبَلَ بِهَا جَمِيعُ الخَلْقِ طَوْعَاً وَكَرْهَاً، تَسَرْبَلَ بِهَا المُجْرمُونَ البُغَاةُ، وَالمُتَأَلِّهُونَ الظَّالِمُونَ، وَالمُتَكَبِّرُونَ المُتَجَبِّرُونَ، بَلْ وَتَسَرْبَلَ بِهَا الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ، أَلَا وَهِيَ حَقِيقَةُ المَوْتِ.

المَوْتُ الذي يَجْبُ عَلَيْنَا أَنْ نُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِهِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَهُ دَائِمَاً وَأَبَدَاً، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. لِأَنَّ كَثْرَةَ ذِكْرِ المَوْتِ تَدْفَعُنَا إلى التَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ، تَدْفَعُنَا إلى الرِّضَا وَالقَنَاعَةِ، تَدْفَعُنَا إلى الصِّدْقِ وَالاسْتِقَامَةِ، تَدْفَعُنَا إلى مُرَاجَعَةِ الحِسَابَاتِ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى المَوْتَ في القُرْآنِ العَظِيمِ ذَكَرَهُ بِلَفْظَةِ الحَقِّ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَا مِرَاءَ فِيهِ، وَصِدْقٌ لَا كَذِبَ فِيهِ، وَلَا بَاطِلَ مَعَهُ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، حَتَّى مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ وَالحَيَاةُ مَادَّةٌ؛ وَمَنْ قَالَ: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾. وَمَنْ قَالَ: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾. وَمَنْ قَالَ: ﴿مَا أُرِيكُمْ إلا مَا أَرَى﴾. وَمَنْ قَالَ: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحَاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبَاً﴾.

لَمَّا ذَكَرَ المَوْتَ قَالَ: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْـمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾.

﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْـمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ الحَقُّ أَنَّكَ تَمُوتُ، الحَقُّ أَنَّكَ سَتَرَى المَلَائِكَةَ، إِمَّا مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ، وَإِمَّا مَلَائِكَةَ العَذَابِ، الحَقُّ أَنَّكَ سَتَرَى مَقْعَدَكَ مِنَ الجَنَّةِ أَو النَّارِ، الحَقُّ أَنَّ قَبْرَكَ سَيَكُونُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أَو حُفْرَةً مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ.

عَرْضُ الظَّالِمِينَ على رَبِّ العَالَمِينَ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: بَعْدَ المَوْتِ بَعْثٌ، وَبَعْدَ البَعْثِ حَشْرٌ، وبَعْدَ الحَشْرِ حِسَابٌ، حَيْثُ يُنَادِي المُنَادِي تِلْكَ النَّفْسَ الظَّالِمَةَ التي عَاثَتْ في الأَرْضِ فَسَادَاً: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانَةٍ، أَنْ قُمْ إلى العَرِضِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.

لَيَالٍ في الإِثْمِ وَالمُخَالَفَاتِ قُضِيَتْ، وَأَيَّامٌ في البَاطِلِ ضَاعَتْ، هُنَاكَ تُنْشَرُ الفَضَائِحُ ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

لِسَانٌ نَطَقَ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَا يُسْخِطُ الرَّبَّ، لِسَانٌ نَطَقَ بِالبَاطِلِ، وَأَشْعَلَ نَارَ الفِتَنِ وَالحُرُوبِ، وَيَدٌ اقْتَرَفَتِ الآثَامَ، وَهَتَكَتِ الأَعْرَاضَ، وَقَتَلَتِ الأَبْرِيَاءَ، وَسَلَبَتِ الأَمْوَالَ، وَيَتَّمَتِ الأَطْفَالَ، وَرَمَّلَتِ النِّسَاءَ، وَرِجْلٌ مَشَتْ إلى الحَرَامِ، وَأَسَاءَتْ وَاعْتَدَتْ، وَعَيْنٌ نَظَرَتْ إلى مَا حَرَّمَ اللهُ تعالى؛ كُلُّ الجَوَارِحِ شَهِدَتْ بِالآثَامِ وَبِأَخْطَائِهَا، ثمَّ عَرَضَتْ على اللهِ مَظَالِمَهَا ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾. لَقَدْ شَهِدَتِ الجَوَارِحُ بِآثَامِهَا، وَعَرَضَتِ الفَضَائِحَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ.

«هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟»:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ مَضَتِ الشَّهَوَاتُ بِأَهْلِهَا، ذَهَبَتْ لَذَّةُ المَعَاصِي وَبَقِيَتْ مَرَارَتُهَا، وَذَاقَ أَصْحَابُهَا الهَوَانَ بَعْدَ العِزِّ وَالكَرَامَةِ الظَّاهِرَةِ، وَنَزَلُوا إلى الدَّرْكِ العَظِيمِ مِنَ الجَحِيمِ، وَكَأَنْ لَمْ يَكُنْ مَرَّ بِهِمْ نَعِيمٌ قَطُّ.

روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرَاً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ.

وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسَاً فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسَاً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ».

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: نَعُوذُ بِاللهِ تعالى مِنْ سُوءِ الخَاتِمَةِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ تعالى مِنَ الظُّلْمِ وَالظَّالِمِينَ، وَنَعُوذُ بِاللهِ تعالى مِنَ الغَفْلَةِ وَالغَافِلِينَ، وَنَعُوذُ بِاللهِ تعالى مِنْ المَعْصِيَةِ وَالعَاصِينَ، غَمْسَةٌ وَاحِدَةٌ في النَّارِ تُنْسِي النَّعِيمَ وَالسُّرُورَ، وَالمَرَحَ وَالحُبُورَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُكَبُّونَ على وُجُوهِهِمْ في النَّارِ مَغْلُولِينَ، النَّارُ مِنْ تَحْتِهِمْ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَعَنْ يَمِينِهِمْ، وَعَنْ شِمَالِهِمْ، فَهُمْ غَرْقَى في النَّارِ، طَعَامُهُمْ نَارٌ، شَرَابُهُمْ نَارٌ، لِبَاسُهُمْ نَارٌ، مِهَادُهُمْ نَارٌ، تَغْلِي بِهِمُ النَّارُ كَغَلْيِ القُدُورِ ﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَقْرَأِ القُرْآنَ العَظِيمَ بِتَدَبُّرٍ، لِنَقْرَأِ الآيَاتِ التي تُحَدِّثُنَا عَنْ أَهْوَالِ يَوْمِ القِيَامَةِ، لِنَقْرَأْ عَنْ مَصِيرِ أَهْلِ النَّارِ، وَعَنْ مُقَاسَاةِ مَا يَلْقَوْنَ مِنَ النَّارِ، لِنَقْرَأْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْـمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوَاً وَلَعِبَاً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾.

أَيْنَ المَالُ؟ وَأَيْنَ البَنُونُ؟ وَأَيْنَ العَشِيرَةُ وَالأَقْرَبُونَ؟ لَقَدْ فُرِّقَ بَيْنَ الأُمِّ وَوَلَدِهَا، وَبَيْنَ الآبَاءِ وَأَبْنَائِهِمْ، وَبَيْنَ الأَصْحَابِ وَالأَحْبَابِ، فَرَاقٌ لَا لِقَاءَ بَعْدَهُ أَبَدَاً، وَجَحِيمٌ لَا نَعِيمَ وَرَاءَهُ ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾.

اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنَ النَّارِ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

السبت: 13/ رمضان /1437هـ، الموافق: 18/ حزيران / 2016م