59ـ مع الصحابة وآل البيت :أين المشمر للجنة؟

.

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

59ـ أين المشمر للجنة؟

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حَقِيقَةٌ يَجِبُ أَنْ تَسْتَقِرَّ في نُفُوسِنَا ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْـمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. حَقِيقَةٌ يَجِبُ أَنْ تَسْتَقِرَّ في نُفُوسِنَا ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْـمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾.

النَّاسُ جَمِيعَاً سَيَمُوتُونَ، الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ، الظَّالِمُ وَالمَظْلُومُ، الحَاكِمُ وَالمَحْكُومُ، المُؤْمِنُ وَالمُنَافِقُ، الوَفِيُّ وَالخَائِنُ، المُصْلِحُ وَالمُفْسِدُ، الطَّائِعُ وَالعَاصِي، المُؤَيِّدُ وَالمُعَارِضُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ المَوْتَ مَوْعِدُهُ، وَالقِيَامَةَ مَوْرِدُهُ، وَالوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى مَشْهَدُهُ، فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَطُولَ حُزْنُهُ في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا، وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَجِدَ رَاحَتَهُ في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا.

كَيْفَ لَا يَكُونُ هَذَا حَالُهُ، وَقَد جَاءَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ؛ فَاتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُم مِنَ المُؤْمِنِينَ حَقَّاً، وَمِنَ المُقَرَّبِينَ مِنَ اللهِ تعالى، وَمِمَّنِ انْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رواه الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْـمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟

فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ؛ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ.

قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ؛ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ».

الدُّنْيَا مَهْمَا عَظُمَتْ فَهِيَ حَقِيرَةٌ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَهْمَا طَالَتْ فَهِيَ قَصِيرَةٌ، وَمَهْمَا عَظُمَتْ فَهِيَ حَقِيرَةٌ ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمَاً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلَاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

الدُّنْيَا قَصِيرَةٌ وَحَقِيرَةٌ، وَنَحْنُ رَاحِلُونَ عَنْهَا، إِمَّا إلى نَعِيمٍ يُنْسِينَا كُلَّ بُؤْسٍ، وَإِمَّا - وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى-  إلى بُؤْسٍ وَشَقَاءٍ يُنْسِي كُلَّ نَعِيمٍ، روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً؛ ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرَاً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟

فَيَقُولُ: لَا واللهِ يَا رَبِّ.

وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسَاً فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ؛ فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسَاً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟

فَيَقُولُ: لَا واللهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ».

أَيْنَ المُشَمِّرُ للجَنَّةِ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَا تَحْزَنُوا على دُنْيَا فَاتَتْ، وَلَا على مَالٍ ذَهَبَ، وَلَا على بَيْتٍ سُلِبَ، وَلَا على مَصْنَعٍ نُهِبَ، وَلَا على دَمِ بَرِيءٍ سُفِكَ، وَلَا على دَيْنٍ نُكِرَ، وَلَا على رِزْقٍ ضُيِّقَ، وَلَا على تِجَارَةٍ ذَهَبَتْ، وَلَا على بَلِيَّةٍ ابْتُلِيتُمْ بِهَا، لَا تَحْزَنُوا، بَلِ اصْبِرُوا ـ فَوَرَبِّ الكَعْبَةِ ـ مَا هِيَ إلا أَيَّامٌ، وَسَنَجِدُ أَنْفُسَنَا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى وَاقِفِينَ، في يَوْمٍ تُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ، وَيَقُومُ فِيهِ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ كَانَ مَظْلُومَاً وَلَمْ يَكُنْ ظَالِمَاً، طُوبَى لِعَبْدٍ كَانَ مَسْرُوقَاً وَلَمْ يَكُنْ سَارِقَاً، طُوبَى لِعَبْدٍ شَمَّرَ في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا للجَنَّةِ، وَخَاصَّةً في أَيَّامِ الأَزَمَاتِ.

طُوبَى لِعَبْدٍ سَمِعَ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ (سَارَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الإِسْرَاعِ وَالجِدِّ) وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْـمَنْزِلَ؛ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. ثمَّ عَمِلَ لَهَا، وَشَمَّرَ عَنْ سَاعِدِ الجِدِّ في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ سَمِعَ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «أَلَا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا (أَيْ: لَا مِثْل لَهَا) هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ (تَتَحَرَّك بِهُبُوبِ الرِّيَاحِ عَلَيْهَا) وَقَـصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ (أَيْ: جَارٍ عَلَيْهَا) وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامٍ أَبَدَاً (دَائِمٍ) فِي حَبْرَةٍ (نِعْمَةٍ وَسَعَةِ عَيْشٍ) وَنَضْرَةٍ (هِيَ: حُسْنُ الْوَجْهِ) فِي دُورٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ».

قَالُوا: نَحْنُ الْـمُشَمِّرُونَ لَهَا يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللهُ» ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَادَ وَحَضَّ عَلَيْهِ. رواه ابن ماجه

«هَلْ رَضِيتُمْ؟»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَا تَحْزَنُوا على نَعِيمٍ فَاتَكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا، لِأَنَّ نَعِيمَ الدُّنْيَا لَيْسَ بِدَائِمٍ، بَلْ هُوَ إلى زَوَالٍ وَفَنَاءٍ، بَلْ كُونُوا حَرِيصِينَ كُلَّ الحِرْصِ على النَّعِيمِ الحَقِيقِيِّ الذي لَا تَبْغُونَ عَنْهُ حِوَلَاً، أَلا وَهُوَ نَعِيمُ الجَنَّةِ، بَلْ إلى نَعِيمٍ أَعْظَمَ وَأَجَلَّ مِنْهُ، أَلَا وَهُوَ نَعِيمُ رُؤْيَةِ وَجْهِ اللهِ تعالى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾.

لَا تَحْزَنُوا على نَعِيمٍ فَاتَكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا، لِأَنَّ النَّعِيمَ الحَقِيقِيَّ هُوَ عِنْدَمَا تَسْمَعُونَ قَوْلَ اللهِ تعالى: «هَلْ رَضِيتُمْ؟» روى الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ.

فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ.

فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟

فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدَاً مِنْ خَلْقِكَ.

فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟

فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟

فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدَاً».

«تُرِيدُونَ شَيْئَاً أَزِيدُكُمْ؟»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَا تَحْزَنُوا على نَعِيمٍ فَاتَكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا، لِأَنَّ النَّعِيمَ الحَقِيقِيَّ هُوَ عِنْدَمَا تَسْمَعُونَ قَوْلَ اللهِ تعالى: «تُرِيدُونَ شَيْئَاً أَزِيدُكُمْ؟» روى الإمام مسلم عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئَاً أَزِيدُكُمْ؟

فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟

فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئَاً أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ».

تَنَافُسُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا زَهِدَ فِيهَا، وَجَعَلَهَا مَطِيَّةً للآخِرَةِ، وَجَعَلَهَا هَمْزَةَ وَصْلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، لا هَمْزَةَ قَطْعٍ، وَبَذَلَهَا لِيَنَالَ مَقَامَ: «هَلْ رَضِيتُمْ؟» وَمَقَامَ: «تُرِيدُونَ شَيْئَاً أَزِيدُكُمْ؟».

أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَعَلُوا دُنْيَاهُم سَبَبَاً لِنَشْرِ الدِّينِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا الدِّينَ سَبَبَاً لِأَخْذِ الدُّنْيَا،   كَانُوا حَرِيصِينَ كُلَّ الحِرْصِ على مَقَامِ: «هَلْ رَضِيتُمْ؟» وَمَقَامِ: «تُرِيدُونَ شَيْئَاً أَزِيدُكُمْ؟». لِذَلِكَ شَمَّرُوا للجَنَّةِ، وَعَمِلُوا لَهَا، وَتَنَافَسُوا في بَذْلِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَتَنَافَسُوا على الدُّنْيَا.

روى الترمذي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالَاً.

فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمَاً.

قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟».

قُلْتُ: مِثْلَهُ.

وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟».

قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ.

قُلْتُ: واللهِ لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدَاً.

وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي ثَوْبِهِ، حِينَ جَهَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ.

قَالَ: فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّبُهَا بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: «مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ ـ يُرَدِّدُهَا مِرَارَاً ـ».

وروى الحاكم عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بَعَثَ إلى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا بِمْائَةِ أَلْفٍ، فَقَسَّمَتْهَا حَتَّى لَمْ تَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئَاً.

فَقَالَتْ بَرِيرَةُ: أَنْتِ صَائِمَةٌ، فَهَلَّا ابْتَعْتِ لَنَا بِدِرْهَمٍ لَحْمَاً؟

فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَو أَنِّي ذُكِّرْتُ لَفَعَلْتُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْألُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إلى مَتَى هَذَا الاقْتِتَالُ على الدُّنْيَا؟ إلى مَتَى هَذَا التَّنَافُسُ على الدُّنْيَا؟ إلى مَتَى التَّسْوِيفُ بِالتَّوْبَةِ؟ إلى مَتَى الحُزْنُ على الدُّنْيَا إِذَا فَاتَتْ؟ مَتَى سَنُشَمِّرُ للجَنَّةِ؟ مَتَى سَنَتَنَافَسُ على الجَنَّةِ؟ الجَنَّةُ لَهَا ثَمَنٌ، وَثَمَنُهَا الزُّهْدُ في الدُّنْيَا؛ وَللهِ دَرُّ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ إِذْ يَقُولُ:

النَّفْسُ تَبْكِي على الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ   ***   أَنَّ الـسَّلَامَةَ فِيهَا تَرْكُ مَـا فِيهَــا

فَلَيْسَ للمَرْءِ دَارٌ بَعْدَ المَوْتِ يَسْكُنُهَا   ***   إِلَّا التي كَانَ قَبْلَ المَـوْتِ يَبْنِيهَــا

فَـإِنْ بَـنَـاهَا بِـخَـيْرٍ طَـابَ مَـسْكَنُهُ   ***   وَإِنْ بَـنَاهَـا بِشَرٍّ خَـابَ بَـانِيهَــا

لَا تَـرْكَـنَنَّ إلى الـدُّنْـيَـا وَزِيـنَـتِـهَـا   ***   فَالمَوْتُ لَا شَكَّ يُـفْنِيهَا وَيُبْدِيــهَا

وَاعْـمَـلْ لِـدَارٍ غَدَاً رَضْوَانُ خَازِنُهَا   ***   وَالجَارُ أَحْـمَدُ وَالرَّحْمَنُ بَانِـيـهَــا

قُـصُورُهَـا ذَهَـبٌ وَالمِـسْـكُ طِينَتُهَا   ***   وَالزَّعْفَرَانُ حَـشِـيشٌ نَابِتٌ فِيهَـا

أَمْـوَالُـنَـا لِـذَوِي المِـيرَاثِ نَـجْمَعُهَا   ***   وَدُورُنَا لِـخَـرَابِ الـدَّهْرِ نَبْنِيـهَـا

وَلِلـنُّفُـوسِ وَإِنْ كَـانَـتْ عَلَى وَجَلٍ   ***   مِنَ الْـمَــنِــيَّـةِ آمَـالٌ تُـقَوِّيــهَــا

فَـالمَـرْءُ يَـبْـسُـطُـهَا وَالدَّهْرُ يَقْبِضُهَا   ***   وَالنَّفْسُ تَنْشُرُهَا وَالمَوْتُ يَـطْــوِيهَا

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ قُلُوبِنَا حُبَّ الدُّنْيَا. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 7/ رجب /1437هـ، الموافق: 14/نيسان / 2016م