488ـ خطبة الجمعة: في الليلة الظلماء يفتقد البدر

.

488ـ خطبة الجمعة: في الليلة الظلماء يفتقد البدر

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: نَحْنُ نَعِيشُ في هَذِهِ الآوِنَةِ في ظُلُمَاتٍ شَدِيدَةٍ، إِذَا أَخْرَجَ أَحَدُنَا يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، وَأَعْظَمُ دَلِيلٍ على أَنَّنَا نَعِيشُ في ظُلُمَاتٍ هُوَ وَاقِعُنَا المَرِيرُ الذي نَعِيشُهُ، وَحَيَاتُنَا المَلِيئَةُ بِالمُدْلَهِمَّاتِ وَالخُطُوبِ، حَيْثُ يَسفِكُ بَعْضُنَا دِمَاءَ البَعْضِ، وَنُخَرِّبُ بُيُوتَنَا بِأَيْدِينَا، وَنُيَتِّمُ أَطْفَالَنَا بِأَيْدِينَا، وَنُرَمِّلُ نِسَاءَنَا بِأَيْدِينَا، وَنُذْهِبُ رِيحَنَا بِأَيْدِينَا، وَعَدُوُّنَا يَضْحَكُ مِنَّا وَيَسْخَرُ عَلَانِيَةً لَا سِرَّاً.

نَحْنُ نَعِيشُ في هَذِهِ الآوِنَةِ في ظِلِّ التَّشْوِيشِ وَالتَّهْمِيشِ، حَيْثُ يُفَسِّقُ بَعْضُنَا بَعْضَاً، وَيُكَفِّرُ بَعْضُنَا بَعْضَاً، خُصُومَةٌ وَحِدَّةٌ وَغِلْظَةٌ وَقَسْوَةٌ وَتَخَاصُمٌ وَتَدَابُرٌ، وَلَا قَاضٍ بَيْنَنَا.

يَا عِبَادَ اللهِ: يَقُولُونَ: في اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ، فَأَيْنَ يَكْمُنُ هَذَا البَدْرُ الذي يَمْحُو اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ هَذَا التَّهَارُجَ وَالتَّحَارُشَ وَالتَّهَاوُشَ؟ أَيْنَ هَذَا البَدْرُ الذي يُبَدِّدُ الظُّلُمَاتِ، وَيُخْرِجُ الأُمَّةَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ، فَيَجْمَعُ شَمْلَهَا مِنْ شَتَاتٍ، وَيَحْقِنُ دِمَاءَهَا، وَيُحَافِظُ على أَعْرَاضِهَا، وَيَغِيظُ عَدُوَّهَا؟

﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا أُمَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَمَا تَرَكَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا إلا هَالِكٌ، أَمَا تَرَكَ لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كِتَابَ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ الذي لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَسُنَّتَهُ العَطِرَةَ المَحْفُوظَةَ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا أَهْلَ بِلَادِ الشَّامِ، هَلْ نَسِينَا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرَاً كَثِيرَاً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾؟ وَالحِكْمَةُ ذَكَرَ اللهُ تعالى لَفْظَهَا في القُرآنِ العَظِيمِ عِـشْرِينَ مَرَّةً، وَمِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تعالى: الحَكِيمُ، وَمِنْ صِفَاتِهِ الحِكْمَةُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: الحِكْمَةُ هِيَ وَضْعُ الشَّيءِ في مَوْضِعِهِ اللَّائِقِ، وَهِيَ فِعْلُ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ، في الوَقْتِ الذي يَنْبَغِي فِعْلُهُ، وَهِيَ مُكَمِّلَةٌ للفِقْهِ وَالعِلْمِ؛ وَلَقَد أَثْنَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ على سَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ آتَاهُ هَذِهِ المِنَّةَ، فَقَالَ تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلَّاً آتَيْنَا حُكْمَاً وَعِلْمَاً﴾. وَأَثْنَى على سَيِّدِنَا لُقْمَانَ عِنْدَمَا وَهَبَهُ الحِكْمَةَ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: الحِكْمَةُ جَمَعَتْ خَيْرَاً كَثِيرَاً، فَجَعَلَتِ الحَكِيمَ يَمْتَازُ بِمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، وَحُسْنِ الـتَّصَرُّفِ، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرَاً كَثِيرَاً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.

البَدْرُ هُوَ الحِكْمَةُ:

يَا عِبَادَ اللهِ: البَدْرُ الذي يُفْتَقَدُ في اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ هُوَ الحِكْمَةُ، فَبِالحِكْمَةِ يُرَتِّبُ الحَكِيمُ قَائِمَةَ الأَوْلَوِيَّاتِ، وَدَرَجَاتِ المَصَالِحِ، وَدَرَكَاتِ المَفَاسِدِ، بِالحِكْمَةِ يَكُونُ الحَكِيمُ حَرِيصَاً على اسْتِقْرَارِ وَطَنِهِ، وَتَمَاسُكِ مُجْتَمَعِهِ، بِالحِكْمَةِ يَكُونُ الحَكِيمُ زَيْنَاً، وَيَمْنَعُ عَنْ نَفْسِهِ الشَّيْنَ.

يَا عِبَادَ اللهِ: الحِكْمَةُ كُلُّهَا خَيْرٌ، وَلَا تَأْتِي إلا بِالخَيْرِ، وَلَا تَقُودُ النَّاسَ إلا إلى الخَيْرِ، الحِكْمَةُ لَا تُشْتَرَى بِالمَالِ، وَلَا بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، لِأَنَّهَا فَوْقَ المَالِ وَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: البَدْرُ الذي يُفْتَقَدُ في اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ هُوَ الحَكِيمُ، الذي يَعْرِفُ مَتَى يَتَكَلَّمُ وَمَتى يَسْكُتُ، لِأَنَّهُ يُدْرِكُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ رُبَّمَا نَدِمَ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَمْ يَنْدَمْ، الحَكِيمُ هُوَ الذي يَعْرِفُ مَوَاضِعَ الإِكْرَامِ، وَمَوَاضِعَ الإِهَانَةِ، الحَكِيمُ هُوَ الذي يَعْرِفُ زَمَانَهُ وَأَهْلَ زَمَانِهِ.

الحَكِيمُ يُعْرَفُ في الشَّدَائِدِ وَالمُدْلَهِمَّاتِ، الحَكِيمُ لَا تَحْكُمُهُ المَصَالِحُ الشَّخْصِيَّةُ وَلَا الأَهْوَاءُ، وَلَا يَحْكُمُهُ الحُبُّ وَلَا البُغْضُ، الحَكِيمُ هُوَ الذي يَجْعَلُ الأُمُورَ في مَحَلِّهَا.

الحَكِيمُ هُوَ الذي اتَّخَذَ مِنْ سَيِّدِنَا مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مِثَالَاً يُحْتَذَى في الحِكْمَةِ مِنْ خِلَالِ مَبْدَأِ الشَّعْرَةِ التي عُرِفَ بِهَا عِنْدَ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الشَّخْصِيَّةُ الحَكِيمَةُ هِيَ التي تُفَكِّرُ بِحِسَابٍ، وَتَعْمَلُ بِحِسَابٍ، وَتُلْجِمُ الأَفْعَالَ بِلِجَامٍ مِنْ عَقْلٍ وَفِكْرٍ وَاتِّزَانٍ، الشَّخْصِيَّةُ الحَكِيمَةُ هِيَ التي عَرَفَتْ بِأَنَّ الحِكْمَةَ مَعْدِنٌ نَفِيسٌ لَا يُنَالُ بـ (لَيْتَ) وَلَا بـ (لَعَلَّ)، الشَّخْصِيَّةُ الحَكِيمَةُ هِيَ التي تَعْلَمُ بِأَنَّ الحِكْمَةَ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ، أَنَّى وَجَدَهَا أَخَذَ بِهَا، وَلَنْ يَجِدَهَا إلا في كِتَابِ اللهِ تعالى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمَا يَقُودَانِ فُؤَادَهُ.

الشَّخْصِيَّةُ الحَكِيمَةُ هِيَ التي عَرَفَتْ بِأَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَعْقَلَ النَّاسِ، وَأَكْمَلَهُم، حَيْثُ قَادَ البَشَرِيَّةَ إلى جَادَّةِ الأَمْنِ وَالأَمَانِ، وَجَمَعَ شَمْلَ الأُمَّةِ، وَحَقَنَ دِمَاءَهَا، وَصَانَ عِرْضَهَا وَمَالَهَا.

ورَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

وَلَا خَيْرَ في عَقْلٍ إِذَا العِلْمُ غَائِبٌ   ***   وَلَا خَيْرَ في عِلْمٍ يَكُونُ بِلَا عَقْلِ

فَلَا بُدَّ مِنْ عَـقْلٍ وَعِـلْمٍ كِـلَاهُمَا   ***   يَـقُـودَانِـنَا نَحْوَ الرَّزَانَةِ وَالفَضْلِ

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 22/ رجب /1437هـ، الموافق: 29/نيسان / 2016م