502ـ خطبة الجمعة: الفتن تهلك الحرث والنسل

.

502ـ خطبة الجمعة: الفتن تهلك الحرث والنسل

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ حَذَّرَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ إِنْ خَالَفَتِ الأُمَّةُ أَمْرَهُ، وَأَمْرَ نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَابْتَعَدَتْ عَنْ شَرِيعَتِهِ، أَنْ يَفْتِنَهَا، قَالَ تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

وَهَا هِيَ الأُمَّةُ قَدْ أَصَابَتْهَا الفِتْنَةُ، فَزُلْزِلَ بَعْضُ النَّاسِ، حَتَّى أَصْبَحَ بَعْضُهُمْ مُؤْمِنَاً وَمَا أَتَى عَلَيْهِ المَسَاءُ حَتَّى صَارَ كَافِرَاً، لَقَدْ أَصَابَتِ الفِتْنَةُ الأُمَّةَ، وَأَخَذَتْ أَمْوَاجُهَا تَتَلَاطَمُ بِأَلْوَانٍ مِنَ الأَحْوَالِ العَجِيبَةِ، حَتَّى صَارَ بَعْضُهُمْ كَالوَرَقِ اليَابِسِ تَذرُوهُ الرِّيحُ يُمْنَةً وَيُسْرَةً.

خُطُورَةُ الفِتَنِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الفِتَنُ خَطَرُهَا عَظِيمٌ، وَشَرُّهَا مُسْتَطِيرٌ، تُهْلِكُ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَتَأْتِي على الأَخْـضَرِ وَاليَابِسِ فَتُحْرِقُ الجَمِيعَ، تُحَيِّرُ العُقَلَاءَ، وَتَجْعَلُ الحَلِيمَ حَيْرَانَ، تُرَمِّلُ النِّسَاءَ، تُيَتِّمُ الأَطْفَالَ، تَـنْشُرُ الفَاحِشَةَ وَالرَّذِيلَةَ بِسَبَبِ تَرَمُّلِ النِّسَاءِ، تُسِيلُ أَنْهَارَ الدِّمَاءِ، تُرَوِّعُ الآمِنِينَ، تُضَيِّعُ شَبَابَ الأُمَّةِ، تُنْزِلُ الوَيْلَاتِ بِالمُجْتَمَعَاتِ، تَكُونُ نَارَاً على الأُمَّةِ، وَقُودُهَا الأَنْفُسُ وَالأَمْوَالُ، وَمَصِيرُ أَهْلِهَا وَمَآلُهُمْ شَرُّ مَآلٍ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى؛ تُفْرِحُ العَدُوَّ، وَتُحْزِنُ الصَّدِيقَ.

يَا عِبَادَ اللهِ: الفِتَنُ تَجْعَلُ العَبْدَ في حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَخَشْيَةٍ مِنْ عَاقِبَتِهِ، تُصِيبُ البَعْضَ بِاليَأْسِ وَالقُنُوطِ القَاتِلِ، وَالبَعْضَ الآخَرَ بِالرِّدَّةِ عَنْ دِينِهِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى؛ وَالبَعْضُ يُحَلِّلُ مَا حَرَّمَ اللهُ تعالى، وَيُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ تعالى، وَالبَعْضُ تَنْطَمِسُ بَصَائِرُهُم، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: الفِتَنُ تَنْسَاقُ لِمَنْ أَرَادَهَا سَوْقَ المَاءِ إلى مُنْحَدَرِهِ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ، القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً، أَوْ مَعَاذَاً، فَلْيَعُذْ بِهِ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. أَيْ: مَنْ تَطَلَّعَ إِلَيْهَا، وَتَعَرَّضَ لَهَا، وَقَعَ فِيهَا.

يَقُولُ سَيِّدُنَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إِنَّ الْفِتْنَةَ إِذَا أَقْبَلَتْ عَرَفَهَا الْعَالِمُ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَرَفَهَا كُلُّ جَاهِلٍ.

وَيَقُولُ سَيِّدُنَا حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: إِيَّاكُمْ وَالْفِتَنَ، لَا يَشْخَصْ لَهَا أَحَدٌ، فَوَاللهِ مَا شَخَصَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا نَسَفَتْهُ كَمَا يَنْسِفُ السَّيْلُ الدِّمَنَ، إِنَّهَا مُشْبِهَةٌ مُقْبِلَةً، حَتَّى يَقُولَ الْجَاهِلُ هَذِهِ تُشْبِهُ مُقْبِلَةً، وَتَتَبَيَّنُ مُدْبِرَةً، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا، فَاجْتَمِعُوا فِي بُيُوتِكُمْ، وَاكْسِرُوا سُيُوفَكُمْ، وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ، وَغَطُّوا وُجُوهَكُمْ. رواه الحاكم.

وَيَقُولُ قَتَادَةُ بْنُ دَعَامَةَ، وَهُوَ أَحَدُ التَّابِعِينَ: قَدْ رَأَيْنَا وَاللهِ أَقْوَامَاً يُـسْرِعُونَ إِلَى الْفِتَنِ وَيَنْزِعُونَ فِيهَا، وَأَمْسَكَ أَقْوَامٌ عَنْ ذَلِكَ هَيْبَةً للهِ وَمَخَافَةً مِنْهُ، فَلَمَّا انْكَشَفَتْ إِذِ الَّذِينَ أَمْسَكُوا أَطْيَبُ نَفْسَاً، وَأَثْلَجُ صُدُورَاً، وَأَخَفُّ ظُهُورَاً مِنَ الَّذِينَ أَسْرَعُوا إِلَيْهَا وَيَنْزِعُونَ فِيهَا، وَصَارَتْ أَعْمَالُ أُولَئِكَ حَزَازَاتٍ عَلَى قُلُوبِهِمْ كُلَّمَا ذَكَرُوهَا، وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ النَّاسَ يَعْرِفُونَ مِنَ الْفِتْنَةِ إِذَا أَقْبَلَتْ كَمَا يَعْرِفُونَ مِنْهَا إِذَا أَدْبَرَتْ لَعَقِلَ فِيهَا جِيلٌ مِنَ النَّاسِ كَثِيرٌ، وَاللهِ مَا بُعِثَتْ فِتْنَةٌ قَطُّ إِلَّا فِي شُبْهَةٍ وَرِيبَةٍ، إِذَا شَبَّتْ رَأَيْتَ صَاحِبَ الدُّنْيَا لَهَا يَفْرَحُ، وَلَهَا يَحْزَنُ، وَلَهَا يَرْضَى، وَلَهَا يَسْخَطُ، وَوَاللهِ لَئِنْ تَشَبَّثَ بِالدُّنْيَا وَحَدَبَ عَلَيْهَا لَيُوشِكُ أَنْ تَلِفَظَهُ وَتُقْضَى مِنْهُ.

سَبِيلُ النَّجَاةِ مِنَ الفِتَنِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ سَبِيلَ النَّجَاةِ مِنَ الفِتَنِ هُوَ اتِّبَاعُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَامْتِثَالُ أَمْرِهِ، وَلَوْ خَالَفَ ذَلِكَ هَوَانَا، لِأَنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَـضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرَاً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالَاً مُبِينَاً﴾.

سَبِيلُ النَّجَاةِ مِنَ الفِتَنِ هُوَ النُّورُ الذي يُـضِيءُ الطَّرِيقَ إِذَا ادْلَهَمَّتِ الخُطُوبُ، وَتَشَابَكَتِ الدُّرُوبُ، النُّورُ الذي يَجْعَلُهُ اللهُ تعالى لِمَنْ أَحَبَّ مِنْ عِبَادِهِ، قَالَ تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتَاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورَاً يَـمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾؟

سَبِيلُ النَّجَاةِ مِنَ الفِتَنِ هُوَ الالْتِجَاءُ إلى اللهِ تعالى بِالدُّعَاءِ، لِأَنَّهُ لَا حَوْلَ للعَبْدِ وَلَا قُوَّةَ لَهُ إلا بِاللهِ تعالى، وَلَوْلَا اللهُ تعالى مَا ثَبَتَ العَبْدُ على الخَيْرِ لَحْظَةً وَاحِدَةً، أَلَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

«اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا   ***   وَلَا تَـصَدَّقْنَا وَلَا صَـلَّـيْنَا

فَـأَنْـزِلَـنْ سَـكِـيـنَـةً عَلَيْنَا    ***   وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا»؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» رواه الترمذي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وَكَانَ يَدْعُو الأُمَّةَ للاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ تعالى مِنَ الفِتَنِ، فَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» رواه الإمام مسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ دِفَاعَ اللهِ تعالى عَنَّا، وَحِمَايَتَهُ لَنَا مِنَ الفِتَنِ وَالمَكَايِدِ يَكُونُ على قَدْرِ إِيمَانِنَا وَتَحَقُّقِنَا بِالعُبُودِيَّةِ للهِ تعالى، فَعَلَى قَدْرِ العُبُودِيَّةِ تَكُونُ الكِفَايَةُ، وَانْظُرُوا هَذَا في حَيَاةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

يَا عِبَادَ اللهِ: الإِسْلَامُ جَاءَ لِيُدْخِلَ النَّاسَ جَمِيعَاً في السِّلْمِ، فَخَاطَبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ المُؤْمِنِينَ عَامَّةً بِأَنْ يَتَّخِذُوا ذَلِكَ غَايَةً لَهُمْ، فَقَالَ تعالى مُخَاطِبَاً أَهْلَ الإِيمَانِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾. فَهَلْ يُمْكِنُ لِأَهْلِ بِلَادِ الشَّامِ أَنْ يُطْفِئُوا نَارَ هَذِهِ الحَرْبِ وَالفتْنَةِ بِالسِّلْمِ وَالسَّلَامِ وَالإِسْلَامِ؟

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 24/ شوال /1437هـ، الموافق: 29/تموز / 2016م