77ـ كلمات في مناسبات: إذا أردت الوصول إلى الله تعالى

.

77ـ كلمات في مناسبات: إذا أردت الوصول إلى الله تعالى

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: إِنَّ الطُّرُقَ المُوصِلَةَ إلى اللهِ تعالى كَثِيرَةٌ، وَسُبُلَهَا عَدِيدَةٌ، وَمَوْرِدُ جَمِيعِ الطُّرُقِ، وَمَنْهَلُ جَمِيعِ السُّبُلِ هُوَ القُرْآنُ العَظِيمُ، إلا أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الطُّرُقِ أَقْرَبُ مِنْ بَعْضٍ، وَأَسْلَمُ وَأَعَمُّ.

وَمِنْ أَقْرَبِ هَذِهِ الطُّرُقِ وَأَسْهَلِهَا طَرِيقُ الفَقْرِ وَالذُّلِّ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾.

فَالفَقْرُ وَالعَجْزُ طَرِيقٌ مُوصِلٌ إلى اللهِ تعالى كَطَرِيقِ العِشْقِ وَالحُبِّ، بَلْ هُوَ أَقْرَبُ وَأَسْلَمُ، إِذْ هُوَ يُوصِلُ إلى المَحْبُوبِيَّةِ بِطَرِيقِ العُبُودِيَّةِ.

وَالمَقْصُودُ بِالفَقْرِ وَالعَجْزِ إِنَّمَا هُوَ إِظْهَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَمَامَ اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، وَلَيْسَ إِظْهَارُهُ أَمَامَ النَّاسِ، وَمَنْ أَرَادَ سُلُوكَ هَذَا الطَّرِيقِ فَعَلَيْهِ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ بَعْدَ العَمَلِ بِالفَرَائِضِ، وَلَا سِيَّمَا إِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِاعْتِدَالِ الأَرْكَانِ، وَالعَمَلِ بِالأَذْكَارِ عَقِبَهَا، وَاجْتِنَابِ الكَبَائِرِ.

قِفْ مَعَ نَفْسِكَ أَرْبَعَ وِقَفَاتٍ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مَنْ أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بالاتِّبَاعِ عَلَيْهِ وَعَلَيْنَا أَنْ نَقِفَ مَعَ أَنَفُسِنَا أَرْبَعَ وِقَفَاتٍ:

الوِقْفَةُ الأُولَى: لَا نُزَكِّ أَنَفُسَنَا:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِنَقِفْ أَمَامَ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾. وِقْفَةَ العَبْدِ المُتَدَبِّرِ لِهَذِهِ الآيَةِ العَظِيمَةِ، لِأَنَّ الإِنْسَانَ حَسْبَ الجِبِلَّةِ التي جُبِلَ عَلَيْهَا مُحِبٌّ لِنَفْسِهِ، بَلْ لَا يُحِبُّ إِلَّا ذَاتَهُ في المُقَدِّمَةِ، وَيُضَحِّي بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَجْلِ ذَاتِهِ، وَيَمْدَحُ نَفْسَهُ مَدْحَاً لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالمَعْبُودِ سُبْحَانَهُ وتعالى وَحْدَهُ، وَيُنَزِّهُ نَفْسَهُ وَيُبَرِّئُ سَاحَتَهَا مِنْ كُلِّ نَاقِصَةٍ، وَيَصِفُهَا بِكُلِّ كَمَالٍ، فَيُعْجَبُ بِنَفْسِهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهَا.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ، وَمِنْ تَزْكِيَتِهَا عَدَمُ تَزْكِيَتِهَا، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾. وَمِنْ ظُلْمِهِ وَكُفْرِهِ أَنَّهُ يُزَكِّي نَفْسَهُ مَدْحَاً وَتَبْرِئَةً مِنْ كُلِّ نَاقِصَةٍ، وَاللهُ تعالى نَهَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾.

الوِقْفَةُ الثَّانِيَةُ: لَا نَنْسَ اللهَ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِنَقِفْ أَمَامَ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. وِقْفَةَ العَبْدِ المُتَدَبِّرِ لِهَذِهِ الآيَةِ العَظِيمَةِ، وَأَنْ نَعْلَمَ بِأَنَّ الجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، فَمَنْ نَسِيَ اللهَ تعالى أَنْسَاهُ اللهُ تعالى نَفْسَهُ، حَتَّى يَظُنَّ العَبْدُ بِأَنَّهُ هُوَ الفَاعِلُ وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَإِذَا بِهِ يُبَدِّلُ صِفَاتِهِ الحَقِيقِيَّةَ بِصِفَاتٍ وَهْمِيَّةٍ، يُبَدِّلُ صِفَةَ الفَقْرِ إلى اللِه تعالى بِالغِنَى عَنِ اللهِ بِمَا آتَاهُ اللهُ تعالى، وَيَبْدَأُ بِتَحْوِيلِ كُلِّ صِفَاتِ النَّقْصِ لِغَيْرِهِ دُونَ نَفْسِهِ.

فَعَلَى العَبْدِ الذي يُرِيدُ الوُصُولَ إلى اللهِ تعالى أَنْ لَا يَنْسَى نَفْسَهُ مَهْمَا عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْهِ، وَأَنْ يَتَمَثَّلَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾.

الوِقْفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ تَمَامِ فَضْلِهِ عَلَيْنَا، أَنْ خَلَقَ فِينَا وَنَسَبَ إِلَيْنَا:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِنَقِفْ أَمَامَ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾. وِقْفَةَ العَبْدِ المُتَدَبِّرِ، وَلْنَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا أَنْ خَلَقَ فِينَا وَنَسَبَ إِلَيْنَا، وَهَذَا مِنَ بَابِ الامْتِحَانِ وَالاخْتِبَارِ، فَعَلَى العَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ هَذِهِ الحَقِيقَةَ القُرْآنِيَّةَ: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ﴾. وَمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ فَلَا يَسَعُهُ إلا أَنْ يَقُولَ: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ﴾. وَأَنْ لَا يَنْسَى أَنَّهُ لَوْلَا تَوْفِيقُ اللهِ تعالى لَهُ لَكَانَ مِنَ الهَالِكِينَ، وَأَنْ يَرَى كُلَّ مَحَاسِنِهِ وَكَمَالَاتِهِ إِحْسَانَاً مِنْ فَاطِرِهِ وَخَالِقِهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَيَتَقَبَّلَهَا نِعَمَاً مِنْهُ سُبْحَانَهُ وتعالى، فَيَشْكُرُ اللهَ تعالى عَلَيْهَا عِنْدَئِذٍ، وَيَزْدَادُ حَيَاءً مِنْهُ تعالى بَدَلَ الفَخْرِ وَالاسْتِعْلَاءِ، وَيَحْمَدُ اللهُ تعالى بَدَلَ المَدْحِ لِنَفْسِهِ وَالمُبَاهَاةِ وَالافْتِخَارِ عَلَى غَيْرِهِ، وَعِنْدَهَا يَكُونُ مِنَ المُفْلِحِينَ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾.

الوِقفَةُ الرَّابِعَةُ: تَذَكَّرِ المَوْتَ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِنَقِفْ أَمَامَ قَوْلِ اللِه تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾. وِقْفَةَ العَبْدِ المُتَدَبِّرِ، لِأَنَّ النَّفْسَ تَتَوَهَّمُ بِأَنَّهَا حُرَّةٌ وَمُسْتَقِلَّةٌ بِذَاتِهَا، لِذَا تَدَّعِي نَوْعَاً مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتُضْمِرُ عِصْيَانَاً حِيَالَ مَعْبُودِهَا الحَقِّ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ.

فَإِذَا أَدْرَكَ العَبْدُ حَقِيقَةَ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾. ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْـمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. أَدْرَكَ أَنَّهُ زَائِلٌ مَفْقُودٌ، حَادِثٌ مَعْدُومٌ، أَدْرَكَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إلى رَبِّهِ تعالى القَائِلِ: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثَاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: قَالَ العَارِفُونَ بِاللهِ تعالى: عَدَمُكَ فِي وُجُودِكَ، وَوُجُودُكَ فِي عَدَمِكَ، فَإِذَا رَأَيْتَ ذَاتَكَ وَأَعْطَيْتَ لَهَا وُجُودَاً غَرِقْتَ فِي ظُلُمَاتِ العَدَمِ وَالفِرَاقِ، وَلَكِنْ عِنْدَمَا تَتْرُكُ الأَنَانِيَّةَ وَالغُرُورَ تَرَى نَفْسَكَ حَقَّاً أَنَّهَا لَا شَيْءَ، وَإِنَّمَا هِيَ مِرْآةٌ تَعْكِسُ تَجَلِّيَاتِ مُوجِدِهَا الحَقِيقِيِّ، عِنْدَهَا تَظْفَرُ بِوُجُودٍ غَيْرِ مُتَنَاهٍ، وَتَرْبَحُ وُجُودَ جَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ.

نَعَمْ، مَنْ وَجَدَ اللهَ تعالى فَقَدْ وَجَدَ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَنْ فَقَدَ اللهَ فَقَدَ كُلَّ شَيْءٍ، فَمَا المَوْجُودَاتُ جَمِيعُهَا إِلَّا تَجَلِّيَّاتُ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى وَصِفَاتِهِ العُلَى.

فَأَقْرَبُ الطُّرُقِ التي تُوصِلُكَ إلى اللِه تعالى هُوَ طَرِيقُ الفَقْرِ وَالتَّبَرُّؤِ مِنَ الحَوْلِ وَالقُوَّةِ وَالقُدْرَةِ وَالإِرَادَةِ، وَأَنْ تَتَحَقَّقَ بِوَصْفِكَ، الذي كَانَ بِدَايَةً لَكَ وَنِهَايَةً، فَأَوَّلُكَ ضَعْفٌ وَفَقْرٌ، وَآخِرُكَ ضَعْفٌ وَفَقْرٌ، فَلَا تَغْتَرَّ بِمَا بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ مَا بَيْنَهُمَا عَارِيَةٌ مُسْتَرَدَّةٌ، قَالَ تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفَاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾.

اللَّهُمَّ أَخْرِجْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا وَأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 7/ ذو القعدة /1437هـ، الموافق: 10/ آب / 2016م