80ـ كلمات في مناسبات: شتان ما بين طلب وطلب

.

80ـ كلمات في مناسبات: شتان ما بين طلب وطلب

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ في هَذَا الوُجُودِ لَهُ أُمْنِيَةٌ يَرْجُو نَوَالَهَا، وَيُخَطِّطُ لِتَحْقِيقِهَا، وَيُعِدُّ وَيُرَتِّبُ للحُصُولِ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الآمَالُ وَالأَمَانِيُّ تَخْتَلِفُ مِنْ شَخْصٍ لِآخَرَ، وَتَخْتَلِفُ بَيْنَ النَّاسِ بِحَسَبِ عُلُوِّ هِمَمِهِمْ، وَرِفْعَةِ مَقَاصِدِهِمْ، فَمَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ عَالِيَةً وَجَدْتَ أَمَانِيَهُ عَالِيَةً وَغَالِيَةً وَعَزِيزَةً وَرَفِيعَةً، وَمَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ هَابِطَةً وَجَدْتَ أَمَانِيَهُ هَابِطَةً، وَرَحِمَ اللهُ تعالى القَائِلَ:

وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارَاً   ***   تَعِبَتْ في مُرَادِهَا الأَجْسَامُ

هِمَمُنَا وَغَايَاتُنَا وَهِمَمُهُمْ وَغَايَاتُهُمْ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَجْعَلَ مُقَارَنَةً بَيْنَ هِمَمِنَا وَغَايَاتِنَا اليَوْمَ وَهِمَمِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَغَايَاتِهِمْ، لَوَجَدْتَ الفَارِقَ الكَبِيرَ بَيْنَ هِمَمِنَا وَغَايَاتِنَا وَبَيْنَ هِمَمِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَغَايَاتِهِمْ.

هِمَمٌ وَغَايَاتٌ هَابِطَةٌ، وَاحِدٌ هِمَّتُهُ وَغَايَتُهُ أَرْضَاً، وَالآخَرُ سَيَّارَةً، وَالآخَرُ مَحَلَّاً أَو بَيْتَاً، وَالآخَرُ زَوْجَةً حَسْنَاءَ، وَالآخَرُ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، وَلَا عَيْبَ في ذَلِكَ وَلَا عَارَ مَا لَمْ يَسْلُكْ في سَبِيلِ ذَلِكَ إِثْمَاً أَو حَرَامَاً.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: المُعِيبُ وَالعَجِيبُ أَنْ تَرَى الهِمَّةَ وَالأُمْنِيَةَ مَحْصُورَةً عِنْدَ هَذَا الحَدِّ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَحُظُوظِهَا الفَانِيَةِ التي زُيِّنَتْ للنَّاظِرِينَ إِلَيْهَا ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْـمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْـمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْـمَآبِ﴾. المُعِيبُ وَالعَجِيبُ أَنْ يَكُونَ هَمُّ الوَاحِدِ وَأُمْنِيَتُهُ مَحْصُورَةً في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَظٌّ وَلَا نَصِيبٌ في الآخِرَةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا حَالُ أَكْثَرِ النَّاسِ، أَمَّا سَلَفُنَا الصَّالِحُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فَقَدْ كَانُوا على نَقِيضِ ذَلِكَ تَمَامَاً، لَقَدْ كَانُوا يُمْنَحُونَ الفُرَصَ الكَثِيرَةَ لِيَسْأَلَ أَحَدُهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ، وَإِذَا دَعَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدٍ أُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ، وَإِذَا وَعَدَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَحَدَاً بِمَوْعِدٍ تَحَقَّقَ وَعْدُهُ بِإِذْنِ اللهِ تعالى.

لَقَدْ كَانَ بِوُسْعِ الوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ مَا سَأَلَ أَحَدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هَذَا الحُطَامَ، حُطَامَ الدُّنْيَا، إلا عَدَدٌ قَلِيلٌ مِنَ الأَعْرَابِ، أَو مِمَّنْ دَخَلَ الإِسْلَامَ ابْتِدَاءً، أَو عَنْ حَاجَةٍ مَاسَّةٍ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانُوا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ إِذَا أُتِيحَتْ لَهُمُ الفُرْصَةُ في السُّؤَالِ سَأَلُوهُ، وَتَمَنَّوْا، وَلَكِنْ مَاذَا كَانُوا يَسْأَلُونَ؟ وَمَاذَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ؟ وَمَاذَا كَانُوا يَطْلُبُونَ؟

أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْـجَنَّةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَهُ وَيَتَمَنَّى عَلَيْهِ مَا يُرِيدُ.

روى الإمام مسلم عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: «سَلْ».

فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ.

قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ».

قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ.

قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».

شَتَّانَ مَا بَيْنَ طَلَبٍ وَطَلَبٍ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: شَتَّانَ مَا بَيْنَ طَلَبٍ وَطَلَبٍ، روى الطَّبَرَانِي في الأَوْسَطِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُئِلَ شَيْئَاً فَأَرَادَ أَنْ يَفْعَلَهُ قَالَ: «نَعَمْ».

وَإِذَا أَرَادَ أَنْ لَا يَفْعَلَ سَكَتَ، وَكَانَ لَا يَقُولُ لِشَيْءٍ: لَا.

فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ، فَسَأَلَهُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَهَيْئَةِ الْـمُنْتَهِرِ: «سَلْ مَا شِئْتَ يَا أَعْرَابِيُّ».

فَغَبِطْنَاهُ، فَقُلْنَا: الْآنَ يَسْأَلُ الْجَنَّةَ.

فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: أَسْأَلُكَ رَاحِلَةً.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ ذَاكَ» ثُمَّ قَالَ: «سَلْ».

قَالَ: أَسْأَلُكَ زَادَاً.

قَالَ: «وَلَكَ ذَاكَ».

قَالَ: فَتَعَجَّبْنَا مِنْ ذَلِكَ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كَمْ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْأَعْرَابِيِّ وعجوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ».

ثمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مُوسَى لَمَّا أُمِرَ أَنْ يَقْطَعَ الْبَحْرَ فَانْتَهَى إِلَيْهِ، فَضُرِبَتْ وُجُوهُ الدَّوَابِّ، فَرَجَعَتْ.

فَقَالَ مُوسَى: مَا لِيَ يَا رَبِّ.

قَالَ لَهُ: إِنَّكَ عِنْدَ قَبْرِ يُوسُفَ، فَاحْتَمِلْ عِظَامَهُ مَعَكَ، وَقَدِ اسْتَوَى الْقَبْرُ بِالْأَرْضِ.

فَجَعَلَ مُوسَى لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ.

قَالُوا: إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ، فَعَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَعَلَّهَا تَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: هَلْ تَعْلَمِينَ أَيْنَ قَبْرُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟

قَالَتْ: نَعَمْ.

قَالَ: فَدُلِّيني عَلَيْهِ.

قَالَتْ: لَا وَاللهِ حَتَّى تُعْطِيَنِي مَا أَسْأَلُكَ.

قَالَ: ذَاكَ لَكِ.

قَالَتْ: فَإِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا فِي الْجَنَّةِ.

قَالَ: سَلِي الْجَنَّةَ.

قَالَتْ: لَا وَاللهِ، أَنْ أَكُونَ مَعَكَ.

فَجَعَلَ مُوسَى يُرَادُّهَا، فَأَوْحَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهِ: أَنْ أَعْطِهَا ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقُصُكَ شَيْئَاً؛ فَأَعْطَاهَا وَدَلَّتْهُ عَلَى الْقَبْرِ، فَأَخْرَجَ الْعِظَامَ وجَاوَزَ الْبَحْرَ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ عُلُوَّ الهِمَّةِ، وَسُمُوَّ الطَلَبِ، لَا يُحْسِنُهُ إلا أَكَابِرُ النَّاسِ الذينَ جَعَلَ اللهُ تعالى التَّوْفِيقَ حَلِيفَهُمْ.

روى الإمام البخاري رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ».

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا.

قَالَ: «نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ». هِمَّةٌ تَنْطَحُ الثُّرَيَّا في عُلُوِّهَا، وَعَزْمٌ يَدُكُّ الجِبَالَ دَكَّاً.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِيُصَنِّفْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ: هُوَ مِنْ أَيِّ الصِّنْفَيْنِ في هَمِّهِ وَهِمَّتِهِ وَطَلَبِهِ، مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُمُوِّ الهِمَّةِ وَعُلُوِّ الطَّلَبِ، وَاجْعَلْ رِضَاكَ مَقْصُودَنَا وَهَمَّنَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 28/ ذو القعدة /1437هـ، الموافق: 31/ آب / 2016م