2ـالإنسان في القرآن العظيم: مصير الحب مرتبط بالتكليف

الإنسان في القرآن العظيم

2ـ مصير الحب مرتبط بالتكليف

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ بِأَنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ الإِنْسَانَ، وَمِنْ أَعْظَمِ الأَدِلَّةِ على مَحَبَّةِ اللهِ تعالى للإِنْسَانِ، أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ لَهُ قَبْلَ خَلْقِهِ، خَلَقَ لَهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، ثمَّ خَلَقَهُ في أَحْسَن تقْوِيمٍ، ثمَّ سَخَّرَ اللهُ تعالى لَهُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ، حَتَّى المَلَائِكَةَ الكِرَامَ، قَالَ تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾.

ثمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسلَاً لِيُعَرِّفُوهُ على اللهِ تعالى، وَلِيُعَرِّفُوهُ على مُرَادِ اللهِ تعالى مِنْهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي هُوَ سَيِّدُ الخَلْقِ على الإِطْلَاقِ.

مَصِيرُ الحُبِّ مُرْتَبِطٌ بِالتَّكْلِيفِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَالإِنْسَانُ بِشَكْلٍ عَامٍّ مُكَرَّمٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ تعالى، وَمَحْبُوبٌ عِنْدَهُ تَبَارَكَ وتعالى، وَمِنْ تَمَامِ هَذَا الحُبِّ أَنْ عَرَّفَهُمُ اللهُ تعالى على الكَوْنِ وَالمُكَوِّنِ، وعلى المَخْلُوقِ وَالخَالِقِ، عَنْ طَرِيقِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسلِينَ، وَوَعَدَهُمْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِنْ هُمْ صَدَّقُوا الأَنْبِيَاءَ وَالمُرْسلِينَ، وَالْتَزَمُوا الشَّرْعَ الذي يَدْعُونَهُمْ إلى الانْضِبَاطِ بِهِ.

وَهُنَا انْقَسَمَ النَّاسُ إلى قِسْمَيْنِ، قِسْمٌ اسْتَجَابَ فَآمَنَ وَالْتَزَمَ، وَقَالَ: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيَاً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾. فَكانَتِ النَّتِيجَةُ: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾.

وَقِسْمٌ كَفَرَ وَأَعْرَضَ وَكَذَّبَ، وَقَالَ: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾.

وَسَيَبْقَى النَّاسُ على هَذَا النَّحْوِ مِنَ الاخْتِلافِ حَتَّى يَرِثَ اللهُ تعالى الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَصَدَقَ قَوْلُ اللهِ تعالى في الخَلْقِ: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا انْقَسَمَ النَّاسُ إلى قِسْمَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ شَكَرَ، وَمِنْهُم مَنْ كَفَرَ بِنِعَمِ اللهِ تعالى عَلَيْهِ، كَانَتْ نَتِيجَةُ حُبِّ اللهِ تعالى لِخَلْقِهِ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ انْقَسَمُوا إلى قِسْمَيْنِ:

فَالذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ تعالى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِيمَا حَمَّلَهُمْ إِيَّاهُ مِنْ تَكَالِيفَ شَرْعِيَّةٍ، وَانْضَبَطُوا بِالوَصَايَا وَالأَوَامِرِ التي خَاطَبَهُمْ بِهَا، ازْدَادَتْ مَحَبَّةُ اللهِ تعالى لَهُمْ رُسُوخَاً «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. هَؤُلَاءِ زَادَهُمُ اللهُ تعالى حُبَّاً وَقُرْبَاً وَعَطَاءً.

أَمَّا الذينَ أَعْرَضُوا عَنِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ التي شَرَّفَهُمُ اللهُ تعالى بِهَا، وَأَعْرَضُوا عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَقَابَلُوا النِّعَمَ بِالكُفْرَانِ، فَهُؤَلَاءِ خَسِرُوا مَحَبَّةَ اللهِ تعالى لَهُمْ، وَعَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِسَخَطِ اللهِ تعالى وَعِقَابِهِ بَدَلَاً مِنْ أَنْ يَتَلَقَّوُا المَزِيدَ مِنَ التَّكْرِيمِ الذي كَانُوا قَدْ نَالُوهُ ابْتِدَاءً بِمَحْضِ الفَضْلِ وَالإِحْسَانِ.

وَهَذَا مَا قَرَّرَهُ اللهُ تعالى بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعَاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعَاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكَاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾.

«أَحْسِنُوا جِوَارَ نِعَمِ اللهِ»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْسَانُ العَاقِلُ هُوَ الذي يُقَابِلُ الإِحْسَانَ بِالإِحْسَانِ، وَيَكُونُ حَرِيصَاً على اسْتِبْقَاءِ هَذَا الحُبِّ الإِلَهِيِّ، مِنْ خِلَالِ النُّهُوضِ بِمَا كَلَّفَهُ اللهُ تعالى مُسْتَعِينَاً بِاللهِ تعالى على ذَلِكَ، وَلَا يُقَابِلُ ذَلِكَ بِكُفْرَانِ هَذِهِ النِّعْمَةِ حَتَّى لَا يُعَرِّضَهَا للزَّوَالِ، وَقَدْ حَذَّرَ مِنْ ذَلِكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «أَحْسِنُوا جِوَارَ نِعَمِ اللهِ، لَا تُنَفِّرُوهَا، فَقَلَّمَا زَالَتْ عَنْ قَوْمٍ فَعَادَتْ إِلَيْهِمْ» رواه أبو يعلى عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عَطَاءُ اللهِ تعالى لَا يُشَابِهُهُ عَطَاءٌ، وَكَرَمُ اللهِ تعالى لَا يُضَاهِيهِ كَرَمٌ، بَعدَ تَكْرِيمِ اللهِ تعالى للعَبْدِ بِمَا خَلَقَ لَهُ، وَبَعْدَ تَكْرِيمِهِ بِشَرَفِ التَّكْلِيفِ، خَاطَبَهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْـمُتَطَهِّرِينَ﴾. فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ القَدَمُ، فَعَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ لِيَبْقَى مُحَافِظَاً على مَحَبَّةِ اللهِ تعالى لَهُ.

وَخَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُتَّقِينَ﴾. لِيَزْدَادَ العَبْدُ حُبَّاً للهِ تعالى، وَحَتَّى يَزِيدَهُ اللهُ تعالى بِفَضْلِهِ حُبَّاً، وَهَكَذَا يَكُونُ التَّبَادُلُ ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَرَّمَ اللهُ تعالى الإِنْسَانَ، وَشَرَعَ لَهُ التَّكَالِيفَ لِيَزْدَادَ حُبَّاً لَهُ، قَبْلَ أَنْ يَرْحَلَ إلى اللهِ تعالى، بَعْد أَنْ عَاشَ دُنْيَاهُ التي قَدَّرَ اللهُ تعالى لَهُ البَقَاءَ فِيهَا.

بَعْدَ هَذَا التَّكْرِيمِ سَيَرْحَلُ العَبْدُ إلى اللهِ تعالى بِإِحْدَى نَتِيجَتَيْنِ:

أُولَاهُمَا: الاحْتِفَاظُ بِالمَكْرُمَةِ التي اخْتَصَّهُ اللهُ تعالى بِهَا، فَيَرْقَى بِذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ اللهِ تعالى مِنَ المُقَرَّبِينَ.

أُخْرَاهُمَا: تَضْيِيعُ هَذِهِ المَكْرُمَةِ، وَذَلِكَ بِالإِعْرَاضِ عَنِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالمُهِمَّةُ القُدْسِيَّةُ التي خُلِقَ لِأَدَائِهَا، وَبِذَلِكَ يَهْوِي في الدَّرَكَاتِ، قَالَ تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرَاً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَمِنَ الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلَاءِ، وَمِنَ الرَّاضَينَ بِمُرِّ القَضَاءِ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 4/ محرم /1438هـ، الموافق: 5/ تشرين الأول / 2016م