265-مع الحبيب المصطفى:«هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْـحَقِّ كُنْتُمْ؟»

 

مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

265ـ «هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْـحَقِّ كُنْتُمْ؟»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِدِينٍ عَلَّمَنَا بِهِ الإِنْصَافَ مِنْ خِلَالِ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَمِنْ خِلَالِ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، وَسِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَالإِنْصَافُ أَنْ تُعْطِيَ غَيْرَكَ مِنَ الحَقِّ مِثْلَ الذي تُحِبُّ أَنْ تَأْخُذَهُ مِنْهُ لَو كُنْتَ مَكَانَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، وَفِي الرِّضَا وَالغَضَبِ، مَعَ مَنْ تُحِبُّ وَمَنْ تَكْرَهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَو قَرَأْنَا القُرْآنَ العَظِيمَ لَوَجَدْنَا فِيهِ الآيَاتِ الوَاضِحَةَ التي تُعَلِّمُ الإِنْسَانَ المُؤْمِنَ كَيْفَ يَكُونُ مُنْصِفَاً، يُنْصِفُ أَخَاهُ في النَّسَبِ وَأَخَاهُ في الدِّينِ، بَلْ عَلَّمَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ في القُرْآنِ العَظِيمِ أَنْ نُنْصِفَ مَنْ كَانَ عَدُوَّاً لَنَا، وَأَنْ نُبْرِئَ سَاحَتَهُ إِذَا كَانَ لَهُ الحَقُّ مَعَ مُخَالَفَتِهِ في عَقِيدَتِهِ وَسُلُوكِهِ.

هَذَا الإِنْصَافُ لَا يَسْتَطِيعُهُ إلا مَنْ تَرَبَّى على القُرْآنِ الكَرِيمِ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَشَبَّعَ بِرُوحِ العَدْلِ وَالإِنْصَافِ الذي جَاءَ بِهِ القُرآنُ العَظِيمُ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمَاً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يُعَلِّمُنَا الإِنْصَافَ في القُرْآنِ العَظِيمِ حَتَّى مَعَ أَعْدَائِنَا، قَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلَاً مِنْهُمْ﴾.

وَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الإِنْصَافَ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالمُسْتَأْمَنِينَ، وَيَنْهَى عَنْ ظُلْمِهِمْ، فَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدَاً، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئَاً بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه أبو داود عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، عَنْ آبَائِهِمْ دِنْيَةً (دِنْيَةً: مُتَّصِلوا النَّسَبِ).

وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدَاً لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامَاً» رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وروى الإمام أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: أَفَاءَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْبَرَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانُوا، وَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَبَعَثَ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ، فَخَرَصَهَا عَلَيْهِمْ. (الخَرْصُ: هُوَ تَقْدِيرُ مَا عَلى رُؤُوسِ النَّخْلِ مِنَ الثَّمَرِ بَعْدَ بَدْءِ صَلَاحِهِ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ)

ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، أَنْتُمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ، قَتَلْتُمْ أَنْبِيَاءَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَبْتُمْ عَلَى اللهِ، وَلَيْسَ يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ (أَيْ: أَجُورَ وَأَظْلِمَ) قَدْ خَرَصْتُ عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ (الوَسْقُ: سِتُّونَ صَاعَاً) فَإِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلِي.

فَقَالَوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، قَدْ أَخَذْنَا، فَاخْرُجُوا عَنَّا.

وَجَاءَ في جَامِعِ المَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ الخَلْقِ إِلَيَّ، وَلَأَنْتُمْ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ أَعْدَادِكُمْ مِنَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ، وَمَا يُرَضِّنِي حُبِّي إِيَّاهُ، وَبغُضْي إِيَّاكُمْ على أَنْ لَا أَعْدِلَ بَيْنَكُمْ.

«هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْـحَقِّ كُنْتُمْ؟»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدمَا نَزَلَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيَّاً أَوْ فَقِيرَاً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرَاً﴾. وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾. الْتَزَمَ ذَلِكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَيَّمَا الْتِزَامٍ.

روى ابن ماجه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ دَيْنَاً كَانَ عَلَيْهِ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَ لَهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلَّا قَضَيْتَنِي (أَيْ: أُضَيِّقُ عَلَيْكَ) فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ (أَيْ: زَجَرُوهُ) وَقَالُوا: وَيْحَكَ تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ؟

قَالَ: إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ؟».

ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا: «إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرُنَا فَنَقْضِيَكِ».

فَقَالَتْ: نَعَمْ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: فَأَقْرَضَتْهُ؛ فَقَضَى الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ.

فَقَالَ: أَوْفَيْتَ، أَوْفَى اللهُ لَكَ.

فَقَالَ: «أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ، إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ (أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصِيبَهُ أَذَىً يُقْلِقُهُ وَيُزْعِجُهُ)».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: على الرَّغْمِ مِنْ وُضُوحِ الحَقِّ، وعلى الرَّغْمِ مِنْ سُهُولَةِ إِقَامَةِ العَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِرْجَاعِ المَظَالِمِ إلى أَصْحَابِهَا، إلا أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يَبِيعُ دِينَهُ بِأَبْخَسِ الأَثْمَانِ، وَيَأْكُلُ حُقُوقَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، وَهُوَ ذَاهِلٌ عَنِ المَصِيرِ المُظْلِمِ الذي يَنْتَظِرُهُ.

مَاذَا يَنْتَظِرُ الظَّالِمُونَ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْصَافُ عَزِيزٌ بَيْنَ النَّاسِ، رُبَّمَا تَجِدُ الرَّجُلَ الذي في ظَاهِرِهِ الصَّلَاحُ وَالإِصْلَاحُ لَا يَعْرِفُ الإِنْصَافَ.

الإِنْصَافُ مِنْ سِمَاتِ الدُّعَاةِ إلى اللهِ تعالى الذينَ يُعْطُونَ الصُّورَةَ الحَسَنَةَ عَنْ دِينِهِمْ تَأَسِّيَاً بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلْيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مُتَخَلِّقَاً بِخُلُقِ الإِنْصَافِ وَخَاصَّةً مَعَ خَصْمِهِ، وَالمُنْصِفُ إِذَا وَقَعَ في خَطَأٍ سَهُلَ عَلَيْهِ الاعْتِرَافُ بِهِ، وَإِذَا كَانَ دَلِيلُهُ ضَعِيفَاً اعْتَرَفَ بِهِ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ إلى الحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي في البَاطِلِ.

كَتَبَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ؛ فَافْهَمْ إِذْ أُدْلِي إِلَيْكَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ، وَآسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ، وَمَجْلِسِكَ، وَعَدْلِكِ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلَا يَخَافَ ضَعِيفٌ مِنْ جَوْرِكَ؛ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْـمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحَاً أَحَلَّ حَرَامَاً، أَوْ حَرَّمَ حَلَالَاً، لَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالْأَمْسِ رَاجَعْتَ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لَا يُبْطِلُ الْحَقَّ شَيْءٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التمادي فِي الْبَاطِلِ.

اللَّهُمَّ مَلِّكْنَا أَنْفُسَنَا بِخَيْرٍ، وَلَا تُسَلِّطْهَا عَلَيْنَا بِشَرٍّ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 16/ محرم /1438هـ، الموافق: 17/ تشرين الأول / 2016م