78ـ مع الصحابة وآل البيت :إِنِّي مُؤْتَمَنٌ

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

78ـ إِنِّي مُؤْتَمَنٌ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟

فَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ.

حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟».

قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».

قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟

قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».

خُلُقُ الأَمَانَةِ خُلُقٌ عَظِيمٌ، لَو تَخَلَّقَ بِهِ الإِنْسَانُ لَسَادَ الأَمْنُ وَالأَمَانُ، وَعَمَّتِ الثِّقَةُ بَيْنَ الأَفْرَادِ، خُلُقُ الأَمَانَةِ خُلُقٌ دَاخِلِيٌّ يَدْفَعُ الإِنْسَانَ لِأَدَاءِ الوَاجِبِ الذي عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ.

خُلُقُ الأَمَانَةِ خُلُقٌ يَرْبِطُ العَبْدَ بِالإِيمَانِ، فَكُلَّمَا قَوِيَ الإِيمَانُ قَوِيَ حِفْظُ الأَمَانَةِ وَأَدَاءُ الحُقُوقِ، وَإِذَا ضَعُفَ الإِيمَانُ ضَعُفَتِ الأَمَانَةُ، وَضَاعَتِ الحُقُوقُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الخَطَرُ مُحْدِقٌ بِنَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِسَبَبِ ضَيَاعِ الأَمَانَةِ، وَيَكَادُ المُجْتَمَعُ أَنْ يَنطَبِقَ عَلَيْهِ الحَدِيثُ الشَّرِيفُ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ: حَدَّثَنَا: «أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ (الجَذْرُ: الأَصْلُ مِنْ كُلِ شَيْءٍ) ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ».

وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الوَكْتِ (هُوَ اللَّوْنُ المُحْدَثُ المُخَالِفُ لِلَّوْنِ الذي كَانَ قَبْلَهُ) ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ المَجْلِ (يَعْنِي: أَثَرَ العَمَلِ في اليَدِ) كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ (أَيْ: صَارَ مُنْتَفِطَاً) فَتَرَاهُ مُنْتَبِرَاً (أَيْ: مُرْتَفِعَاً) وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلَاً أَمِينَاً، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ».

وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمَاً رَدَّهُ عَلَيَّ الإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ نَـصْرَانِيَّاً رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ؛ فَأَمَّا اليَوْمَ: فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانَاً وَفُلَانَاً.

أَلَيْسَ هَذَا الوَصْفُ يَصْدُقُ في عَامَّةِ النَّاسِ إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى؟

أَلَسْنَا اليَوْمَ إِنْ بَحَثْنَا عَنِ الأُمَنَاءِ فَإِنَّا لَا نَكَادُ نُحْصِي إلا القَلِيلَ مِنَ القَوْمِ؟

﴿مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُعَلِّمَ أَبْنَاءَنَا، بَلْ وَرِجَالَنَا سِيرَةَ أَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لَعَلَّهُمْْ أَنْ يَتَأَسَّوْا بِهِمْ، لِأَنَّهُ عَيْبٌ على الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ عَنْ نَفْسِهِ: أَنَا رَجُلٌ، إِذَا لَمْ يَتَشَبَّهْ بِالكُمَّلِ مِنَ الرِّجَالِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ مِنْ أَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَانَ غُلَامَاً يَافِعَاً لَمْ يَتَجَاوَزِ الحُلُمَ عِنْدَمَا شَرَحَ اللهُ تعالى صَدْرَهُ للإِسْلَامِ، هَذَا الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ هُوَ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَانَ رَاعِيَاً للغَنَمِ، يَرْعَاهَا لِسَيِّدٍ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ هُوَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ.

كَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَسْمَعُ أَخْبَارَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي ظَهَرَ في قَوْمِهِ، وَلَكِنَّهُ مَا كَانَ يَأْبَهُ لِهَذَا الأَمْرِ، لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ مِنْ جِهَةٍ، وَلِبُعْدِهِ عَنِ المُجْتَمَعِ المَكِّيِّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَقَدْ كَانَ مُشْتَغِلَاً بِرَعَايَةِ الغَنَمِ مِنَ البُكُورِ، ثمَّ لَا يَعُودُ بِهَا إلا إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ.

 وَفِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ أَبْصَرَ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ كَهْلَيْنِ عَلَيْهِمَا الوَقَارُ يَتَّجِهَانِ نَحْوَهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَقَدْ أَخَذَ الجَهْدُ مِنْهُمَا كُلَّ مَأْخَذٍ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمَا الظَّمَأُ حَتَّى جَفَّتْ مِنْهُمَا الشِّفَاهُ وَالحُلُوقُ؛ كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ غُلَامَاً يَافِعَاً أَرْعَى غَنَمَاً لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ فَرَّا مِنَ الْـمُشْرِكِينَ، فَقَالَا: يَا غُلَامُ، هَلْ عِنْدَكَ مِنْ لَبَنٍ تَسْقِينَا؟

قُلْتُ: إِنِّي مُؤْتَمَنٌ، وَلَسْتُ سَاقِيَكُمَا.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ جَذَعَةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ؟» (يَعْنِي: شَاةً لَمْ تَلِدْ وَلَمْ يَجْرِ فِي ضِرْعِهَا اللَّبَنُ).

قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَتَيْتُهُمَا بِهَا، فَاعْتَقَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ الـضَّرْعَ، وَدَعَا، فَحَفَلَ الضَّرْعُ (أَيْ: اجْتَمَعَ لَبَنُهُ وَكَثُرَ) ثُمَّ أَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِصَخْرَةٍ مُنْقَعِرَةٍ، فَاحْتَلَبَ فِيهَا، فَـشَرِبَ، وَشَرِبَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ شَرِبْتُ، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: «اقْلِصْ» فَقَلَصَ (أَيْ: انْضَمَّ وَانْقَبَضَ).

فَأَتَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ؟

قَالَ: «إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ».

قَالَ: فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ سُورَةً، لَا يُنَازِعُنِي فِيهَا أَحَدٌ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أَحَبَّ الغُلَامُ الأَمِينُ الصَّادِقَ الأَمِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبِالمُقَابِلِ أُعْجِبَ بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَكْبَرَ فِيهِ الأَمَانَةَ وَالحَزْمَ وَتَوَسَّمَ فِيهِ الخَيْرَ.

لَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ حَتَّى أَسْلَمَ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَعَرَضَ نَفْسَهُ على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيَخْدِمَهُ، فَوَضَعَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في خِدْمَتِهِ.

وَمُنْذُ ذَلِكَ اليَوْمِ انْتَقَلَ الغُلَامُ المَحْظُوظُ عَبْدُ الله بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ رِعَايَةِ الغَنَمِ إلى خِدْمَةِ سَيِّدِ الخَلْقِ وَالأُمَمِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: خُلُقُ الأَمَانَةِ خُلُقٌ فِطْرِيٌّ في الإِنْسَانِ، فَكَيْفَ إِذَا نَمَّاهُ الإِنْسَانُ مِنْ خِلَالِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ فَسَوْفَ يَكُونُ أَحْسَنُ حَالَاً؛ وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا نِعْمَةَ خُلُقِ الأَمَانَةِ، وَوَفِّقْنَا يَا رَبَّنَا للمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَأَبْعِدْنَا عَنْ نَقِيضِهَا، أَبْعِدْنَا عَنْ صِفَةِ الخِيَانَةِ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 19/ محرم /1438هـ، الموافق: 20/تشرين الأول / 2016م