39-دروس رمضانية 1437هـ:نقض قريش العهد

.

دروس رمضانية 1437هـ

39ـ نقض قريش العهد

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَـمَّا تَمَّ أَمْرُ اللهِ في تَرْسِيخِ هَذَا الدِّينِ، وَتَرْبِيَةِ المُسْلِمِينَ، وَامْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ للتَّقْوَى، وَفَاضَتْ كَأْسُ قُرَيْشٍ ظُلْمَاً وَعُدْوَانَاً، وَجُحُودَاً بِالحَقِّ، وَصَدَّاً عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَمُحَارَبَةً لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، أَرَادَ اللهُ أَنْ يَدْخُلَ رَسُولُهُ وَالمُسْلِمُونَ مَكَّةَ فَاتِحِينَ غَالِبِينَ، يُطَهِّرُوا الكَعْبَةَ مِنَ الرِّجْسِ مِنَ الأَوْثَانِ وَقَوْلِ الزُّورِ، وَيُعِيدُوا مَكَّةَ إلى مَكَانَتِهَا الأُولَى، فَتَكُونَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنَاً، وَيَجْعَلُونَ البَيْتَ كَمَا كَانَ مُبَارَكَاً وَهُدَىً لِلْعَالَمِينَ.

نَقْضُ قُرَيْشٍ لِلْعَهْدِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ مِنْ شُرُوطِ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ مَنْ دَخَلَ في عَقْدِ قُرَيْشٍ دَخَلَ، وَمَنْ دَخَلَ في عَقْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِهِ دَخَلَ، فَدَخَلَتْ قَبِيلَةُ بَنِي بَكْرٍ في عَهْدِ قُرَيْشٍ وَعَقْدِهِمْ، وَدَخَلَتْ قَبِيلَةُ خُزَاعَةَ في عَقْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِهِ.

وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَ القَبِيلَتَيْنِ عَدَاوَةٌ في الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَتِ الهُدَنَةُ، وَدَخَلَتِ القَبِيلَتَانِ في مُعَسْكَرَيْنِ مُتَحَارِبَيْنِ، أَرَادَ بَنُو بَكْرٍ أَنْ يَنْتَهِزُوا هَذِهِ الفُرْصَةَ، لِيُصِيبُوا مِنْ خُزَاعَةَ الثَّأْرَ القَدِيمَ، فَبَيَّتَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ لِخُزَاعَةَ وَهُمْ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ رِجَالَاً، وَتَنَاوَشُوا وَاقْتَتَلُوا.

وَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلَاحِ، وَقَاتَلَ مَعَهُمْ أَشْرَافٌ مِنْ قُرَيْشٍ مُسْتَخْفِينَ لَيْلَاً، حَتَّى حَازُوا خُزَاعَةَ إلى الحَرَمِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ قَالَتْ بَنُو بَكْرٍ لِبَعْضِ رِجَالِهِمْ: إِنَّا قَدْ دَخَلْنَا الحَرَمَ، إِلَهَكَ إِلَهَكَ!

فَقَالَ: لَا إِلَهَ اليَوْمَ، يَا بَنِي بَكْرٍ، أَصِيبُوا ثَأْرَكُمْ، فَلَا تَجِدُونَ هَذِهِ الفُرْصَةَ بَعْدَ ذَلِكَ.

الاسْتِغَاثَةُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الخُزَاعِيِّ، وَقَدِمَ على رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ، وَأَنْشَدَ أَبْيَاتَاً، يَنْشُدُهُ فِيهَا الحِلْفَ الذي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُزَاعَةَ، وَسَأَلَهُ النَّصْرَ وَالنَّجْدَةَ، وَيُخْبِرُهُ بِأَنَّ قُرَيْشَاً أَخْلَفُوهُ المَوْعِدَ، وَنَقَضُوا مِيثَاقَهُ المُؤَكَّدَ، وَأَنَّهُمْ بُيِّتُوا وَهُمْ على مَاءٍ لَهُمْ وَقُتِلُوا رُكَّعَاً وَسُجَّدَاً.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْنَ سَالِمٍ».

بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَإِقَامَةُ الحُجَّةِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: وَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْهُمُ الخَبَرَ، وَيُعْذِرَ إلى قُرَيْشٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَجُلَاً يُخَيِّرُهُمْ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثِ خِلَالٍ، بَيْنَ أَنْ يَدْفَعُوا دِيَةَ قَتْلَى خُزَاعَةَ، أَو يَبْرَؤُوا مِنْ حِلْفِ مَنْ تَوَلَّى كِبْرَ هَذَا النَّقْضِ، وَقَادَ الحَمْلَةَ على خُزَاعَةَ، وَهُمْ بَنُو نُفَاثَةَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، أَو يَنْبُذَ إِلَيْهِمْ على سَوَاءٍ.

فَأَجَابَهُ بَعْضُ زُعَمَائِهِم: لَكِنْ نَنْبُذُ إِلَيْهِمْ على سَوَاءٍ؛ وَبِذَلِكَ بَرِئَتْ ذِمَّةُ قُرَيْشٍ، وَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الحُجَّةُ.

أَبُو سُفْيَانَ في المَدِينَةِ لِتَجْدِيدِ الصُّلْحِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: فِعْلُ قُرَيْشٍ وَحُلَفَائِهَا كَانَ غَدْرَاً مَحْضَاً وَنَقْضَاً صَرِيحَاً لِلْمِيثَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَيُّ مُبَرِّرٍ، وَلِذَلِكَ سُرْعَانَ مَا أَحَسَّتْ قُرَيْشٌ بِغَدْرِهَا، وَخَافَتْ وَشَعَرَتْ بِعَوَاقِبِهِ الوَخِيمَةِ، فَعَقَدَتْ مَجْلِسَاً اسْتِشَارِيَّاً، وَقَرَّرَتْ أَنْ تَبْعَثَ قَائِدَهَا أَبَا سُفْيَانَ مُمَثِّلَاً لَهَا، لِيَقُومَ بِتَجْدِيدِ الصُّلْحِ.

وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِمَا سَتَفْعَلُهُ قُرَيْشٌ إِزَاءَ غَدْرَتِهِم؛ فَقَالَ: «كَأَنَّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ لِيَشُدَّ العَقْدَ، وَيَزِيدَ في المُدَّةِ».

وَقَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ المَدِينَةَ، فَدَخَلَ على ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ على فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ طَوَتْهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، أَرَغِبْتِ بِي عَنْ هَذَا الفِرَاشِ، أَمْ رَغِبْتِ بِهِ عَنِّي؟

قَالَتْ: بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ نَجِسٌ.

فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ أَصَابَكَ بَعْدِي شَرٌّ.

ثمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئَاً.

ثمَّ ذَهَبَ إلى أَبِي بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ أَنْ يُكَلِّمَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ.

ثمَّ أَتَى عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ فَكَلَّمَهُ، فقال: أَأَنَا أَشْفَعُ لَكُمْ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ فَوَاللهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إلا الذَّرَّ لَجَاهَدْتُكُمْ بِهِ.

ثمَّ جَاءَ فَدَخَلَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ، وَحَسَنٌ غُلَامٌ يَدُبُّ بَيْنَ يَدَيْهِمَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنَّكَ أَمَسُّ القَوْمِ بِي رَحِمَاً، وَإِنِّي قَدْ جِئْتُ في حَاجَةٍ، فَلَا أَرْجِعَنَّ كَمَا جِئْتُ خَائِبَاً، اشْفَعْ لِي إلى مُحَمَّدٍ.

فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ، لَقَدْ عَزَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فِيهِ.

فَالْتَفَتَ إلى فَاطِمَةَ، فَقَالَ: هَلْ لَكِ أَنْ تَأْمُرِي ابْنَكِ هَذَا فَيُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَكُونَ سَيِّدَ العَرَبِ إلى آخِرِ الدَّهْرِ؟

قَالَتْ: وَاللِه مَا يَبْلُغُ ابْنِي ذَاكَ أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا يُجِيرُ أَحَدٌ على رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَحِينَئِذٍ أَظْلَمَتِ الدُّنْيَا أَمَامَ عَيْنَيْ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ في هَلَعٍ وَانْزِعَاجٍ وَيَأْسٍ وَقُنُوطٍ: يَا أَبَا الحَسَنِ، إِنِّي أَرَى الأُمُورَ قَدِ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ، فَانْصَحْنِي.

قَالَ: وَاللهِ مَا أَعْلَمُ لَكَ شَيْئَاً يُغْنِي عَنْكَ، وَلَكِنَّكَ سَيِّدُ بَنِي كِنَانَةَ، فَقُمْ فَأَجِرْ بَيْنَ النَّاسْ، ثمَّ الْحَقْ بِأَرْضِكَ.

قَالَ: أَوَ تُرَى ذَلِكَ مُغْنِيَاً عَنِّي شَيْئَاً؟

قَالَ: لَا وَاللهِ مَا أَظُنُّهُ، وَلَكِنِّي لَمْ أَجِدْ لَكَ غَيْرَ ذَلِكَ.

فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ في المَسْجِدِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ؛ ثمَّ رَكِبَ بَعِيرَهُ، وَانْطَلَقَ.

وَلَمَّا قَدِمَ على قُرَيْشٍ، قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟

قَالَ: جِئْتُ مُحَمَّدَاً فَكَلَّمْتُهُ، فَوَاللِه مَا رَدَّ عَلَيَّ شَيْئَاً؛ ثمَّ جِئْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ خَيْرَاً؛ ثمَّ جِئْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، فَوَجَدْتُهُ أَدْنَى العَدُوِّ؛ ثمَّ جِئْتُ عَلِيَّاً فَوَجَدْتُهُ أَلْيَنَ القَوْمِ، قَدْ أَشَارَ عَلَيَّ بِـشَيْءٍ صَنَعْتُهُ، فَوَاللهِ مَا أَدْرِي هَلْ يُغْنِي عَنِّي شَيْئَاً أَمْ لَا؟

قَالُوا: وَبِمَ أَمَرَكَ؟

قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، فَفَعَلْتُ.

قَالُوا: فَهَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ؟

قَالَ: لَا.

قَالُوا: وَيْلَكَ، إِنْ زَادَ الرَّجُلُ على أَنْ لَعِبَ بِكَ.

قَالَ: لَا وَاللهِ مَا وَجَدْتُ غَيْرَ ذَلِكَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بِاخْتِصَارٍ شَدِيدٍ، العَاقِبَةُ للمُتَّقِينَ، وَاللهُ غَالِبٌ على أَمْرِهِ، إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الذينَ آمَنُوا، البَاطِلُ إلى زَوَالٍ، وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، وَالسَّعِيدُ مَنْ كَانَ خَادِمَاً للحَقِّ وَأَهْلِهِ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

              السبت: 20/ رمضان /1437هـ، الموافق: 25/ حزيران / 2016م