54-دروس رمضانية 1437هـ:«يا ويلها، أين تذهبون بها؟»

.

دروس رمضانية 1437هـ

54ـ «يا ويلها، أين تذهبون بها؟»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هذا شَهرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ كَادَ أن يَنْصَرِمَ، فهل نَزِيدُ في فِعلِ الطَّاعَاتِ والإحسَانِ؟ لأنَّ العَبدَ إذا خَسِرَ شَهرَ رَمَضَانَ فَمَتَى يَربَحُ؟ كَانَ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى يَقُولُ: من لم يُغفَرْ لَهُ في رَمَضَانَ فَلن يُغفَرَ لَهُ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: اِغتَنِمُوا فُرصَةَ الحَيَاةِ القَصِيرَةِ، وأَيَّامَ شَهرِ رَمَضَانَ المَعدُودَةَ بالتَّزَوُّدِ لِدَارِ القَرَارِ، فالأَيَّامُ مَحدُودَةٌ، والأوقَاتُ مَحدُودَةٌ، والأنفَاسُ مَحدُودَةٌ، وتَذَكَّرُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ﴾. وتَذَكَّرُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾. وتَذَكَّرُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِنَحذَرِ العَوَائِقَ التي تُعِيقُنَا عن العَمَلِ الصَّالِحِ، روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعاً، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْراً مُنْسِياً؟ أَوْ غِنىً مُطْغِياً؟ أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً؟ أَوْ هَرَماً مُفَنِّداً؟ أَوْ مَوْتاً مُجْهِزاً؟ أَوْ الدَّجَّالَ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَو السَّاعَةَ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ».

يا مُغتَنِمَ فُرصَةِ الحَيَاةِ لن تَندَمَ إن شَاءَ اللهُ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: من اغتَنَمَ فُرصَةَ الحَيَاةِ في طَاعَةِ اللهِ عزَّ جلَّ، ومَاتَ على الطَّاعَةِ، وكَانَ من المُخلِصِينَ للهِ عزَّ وجلَّ في عَمَلِهِ، لن يَندَمَ هذا العَبدُ إن شَاءَ اللهُ تعالى، لأنَّهُ صَارَ من السُّعَدَاءِ، وكُشِفَ لَهُ الغِطَاءُ، فَرَأَى مَقعَدَهُ من النَّارِ، وقد أبدَلَهُ اللهُ تعالى مَقعَدَاً عِوَضَاً عَنهُ في الجَنَّةِ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ.

فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ.

فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِن النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَداً مِن الْجَنَّةِ».

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَيَرَاهُمَا جَمِيعاً، وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوْ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ.

فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ».

«قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي»:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: العَبدُ الذي عَرَفَ قِيمَةَ الوَقتِ، ومَلَأَهُ بالطَّاعَاتِ والقُرُبَاتِ لن يَندَمَ إذا وَقَعَ في سِيَاقِ المَوتِ، لن يَندَمَ إذا حُمِلَ إلى قَبرِهِ، ولن يَقُولَ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾. ولن يَقُولَ: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. بل سَيَقُولُ: قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي.

روى الإمام البخاري عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وُضِعَت الْجِنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ لَصَعِقَ». لأنَّهُ رَأَى قَبرَهُ رَوضَةً من رِيَاضِ الجَنَّةِ.

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِنَغتَنِمْ فُرصَةَ الحَيَاةِ حتَّى لا نَندَمَ ولا نَتَمَنَّى العَودَةَ إلى الدُّنيا من أَجلِ العَمَلِ الصَّالِحِ وليَتَصَوَّرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفسَهُ، ماذا سَيَقُولُ إذا حُمِلَ على النَّعْشِ وذَهَبَ بِهِ المُشَيِّعُونَ إلى القَبرِ؟

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: واللهِ لو سَمِعنَا صَوتَ الذي يَصرُخُ وهوَ مَحمُولٌ على نَعْشِهِ إلى قَبرِهِ لَصُعِقنَا، ولَمَا دَفَنَ أَحَدٌ مِنَّا مَيْتاً، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ».

مَوعِظَةُ أبي حَازِمٍ لِسُلَيمَانَ بنِ عَبدِ المَلِكِ:

أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: الكَثِيرُ من النَّاسِ من يَكرَهُ المَوتَ، ولا يُرِيدُ أن يَسمَعَ عن المَوتِ شَيئاً، وما ذاكَ إلا لِحُبِّ الدُّنيا الذي سَيطَرَ على القُلُوبِ إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى.

روى الدارمي عن الضَّحَّاكِ بْنُِ مُوسَى، أنَّ سُلَيمَانَ بنَ عَبدِ المَلِكِ سَأَلَ عَالِماً من عُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا حَازِمٍ، مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ؟

قَالَ: لأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمُ الآخِرَةَ وَعَمَّرْتُمُ الدُّنْيَا، فَكَرِهْتُمْ أَنْ تَنْتَقِلُوا مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ.

قَالَ: أَصَبْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ، فَكَيْفَ الْقُدُومُ غَداً عَلَى اللهِ؟

قَالَ: أَمَّا الْمُحْسِنُ فَكَالْغَائِبِ يَقْدُمُ عَلَى أَهْلِهِ، وَأَمَّا الْمُسِىءُ فَكَالآبِقِ يَقْدُمُ عَلَى مَوْلاَهُ.

فَبَكَى سُلَيْمَانُ وَقَالَ: لَيْتَ شِعْرِى مَا لَنَا عِنْدَ اللهِ؟

قَالَ: اعْرِضْ عَمَلَكَ عَلَى كِتَابِ اللهِ.

قَالَ : وَأَيُّ مَكَانٍ أَجِدُهُ؟

قَالَ: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحَيَاةُ الدُّنيا مَعبَرٌ لا مَقَرٌّ، والسَّعِيدُ من اتَّعَظَ بِغَيرِهِ، وانتَهَزَ فُرصَةَ الحَيَاةِ الدُّنيا بالتَّزَوُّدِ للآخِرَةِ.

قالَ الحَسَنُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: نِعمَتِ الدَّارُ الدُّنيا كَانَت للمُؤمِنِ، وذلكَ لأنَّهُ عَمِلَ فِيهَا قَلِيلاً وأَخَذَ مِنهَا زَادَهُ إلى الجَنَّةِ، وبِئسَتِ الدَّارُ الدُّنيا كَانَت للكَافِرِ والمُنَافِقِ، وذلكَ لأنَّهُ أَضَاعَ فِيهَا لَيَالِيَهُ، وأَخَذَ مِنهَا زَادَهُ إلى النَّارِ.

اللَّهُمَّ اجعَلنَا مِمَّن قُلتَ فِيهِم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

السبت: 27/ رمضان /1437هـ، الموافق: 2/ تموز/ 2016م