525ـ خطبة الجمعة: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار

 

525ـ خطبة الجمعة: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الإِيمَانَ بِاللهِ تعالى وَبِاليَوْمِ الآخِرِ يَضْعُفُ وَيَقْوَى، يَضْعُفُ بِالمَعَاصِي، وَيَقْوَى بِالطَّاعَاتِ، وَدَلِيلُ ضَعْفِ الإِيمَانِ أَنْ تَرَانَا نَنْدَمُ على الأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ إِذَا فَاتَتْ، وَنَتَحَسَّرُ حَسَرَاتٍ تُحْرِقُ الفُؤَادَ، وَتُدْمِعُ العَيْنَ، وَتَذهَبُ الابْتِسَامَةُ مِنْ أَجْلِهَا، وَلَكِنَّنَا لَا نَتَحَسَّرُ على أُمُورِ الدِّينِ إِذَا فَاتَتْ.

مَنْ مِنَّا إِذَا اسْتَيْقَظَ وَقَدْ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ، وَطَارَتِ الطُّيُورُ بِأَرْزَاقِهَا، وَفَاتَتْهُ صَلَاةُ الفَجْرِ، تَحَسَّرَ وَتَأَلَّمَ وَنَدِمَ وَاحْتَرَقَ فُؤَادُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفُزْ بِنِعْمَةِ صَلَاةِ الفَجْرِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ في ذِمَّةِ اللهِ تعالى في ذَلِكَ اليَوْمِ؟

كَمْ وَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ يَسْتَيْقِظُونَ بَعْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، وَلَا تُوجَدُ في قُلُوبِهِمْ حَسْرَةٌ وَلَا نَدَامَةٌ على مَا فَاتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ تعالى، وَخَاصَّةً على صَلَاةِ الفَجْرِ التي هِيَ أَثْقَلُ صَلَاةٍ على المُنَافِقِينَ؟

نَبْكِي على الدُّنْيَا، وَنَتَحَسَّرُ عَلَيْهَا، وَلَا نَبْكي على تَفْرِيطِنَا في دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِضَعْفِ الإِيمَانِ في القُلُوبِ، وَتَعَلُّقِهَا بِدُنْيَا دَنِيَّةٍ فَانِيَةٍ، عَلَيْهَا تَقَاتَلْنَا، وَمِنْ أَجْلِهَا سُفِكَتِ الدِّمَاءُ، وَاجْتَرَأَ النَّاسُ على لُقْمَةِ الحَرَامِ، حَسَرَاتٌ أَحْرَقَتِ القُلُوبَ مِنْ أَجْلِ الدُّنْيَا، وَاللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.

أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ لَيْلَةٍ صَبَاحُهَا إلى النَّارِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُلَّمَا عَظُمَ الإِيمَانُ بِاللهِ تعالى وَبِاليَوْمِ الآخِرِ كَانَ البُكَاءُ على الدِّينِ إِذَا فَاتَ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ أَكْثَرَ مِنَ البُكَاءِ على الدُّنْيَا إِذَا فَاتَتْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلَاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرَاً وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ» رواه الترمذي والحاكم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَكُلَّمَا ضَعُفَ الإِيمَانُ بِاللهِ تعالى وَبِاليَوْمِ الآخِرِ كَانَ البُكَاءُ على الدُّنْيَا إِذَا فَاتَتْ أَكْثَرَ مِنَ البُكَاءِ على الدِّينِ إِذَا فَاتَ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ يَبْكُونَ على الدِّينِ لَا على الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ تَحَقَّقُوا بِالإِيمَانِ وَبِالمَعْرِفَةِ بِاللهِ تعالى، وَبِسُنَّةِ اللهِ تعالى في عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا.

هَذَا سَيِّدُنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الذي زَكَّاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «يَا مُعَاذُ، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ» رواه أبو داود عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هَذَا سَيِّدُنَا مُعَاذٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَعْلَمُ الأُمَّةِ بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ، هَذَا سَيِّدُنَا مُعَاذٌ وَهُوَ في سِنِّ الشَّبَابِ، كَانَ يُحَافِظُ على صَلَاةِ التَّهَجُّدِ، وَيَقُولُ في تَهَجُّدِهِ: اللَّهُمَّ قَدْ نَامَتِ الْعُيُونُ، وَغَارَتِ النُّجُومُ، وَأَنْتَ حَيٌّ قَيُّومٌ، اللَّهُمَّ طَلَبِي لِلْجَنَّةِ بَطِيءٌ، وَهَرَبِي مِنَ النَّارِ ضَعِيفٌ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي عِنْدَكَ هُدَىً تَرُدُّهُ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ.

هَذَا سَيِّدُنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، لَمَّا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِالشَّامِ فِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْ عَلَى آلِ مُعَاذٍ نَصِيبَهُمْ مِنْ هَذَا الْبَلَاءِ.

فَطُعِنَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَاتَتَا، حَتَّى طُعِنَ لَهُ ابْنٌ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ﴾. قَالَ: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.

ثُمَّ مَاتَ ابْنُهُ ذَلِكَ فَدَفَنَهُ؛ ثُمَّ طُعِنَ مُعَاذٌ، فَجَعَلَ يُغْشَى عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفَاقَ قَالَ: رَبِّ عُمَّنِي عَمَّتَكَ، فَوَعِزَّتِكَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ؛ ثُمَّ يُغْشَى عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفَاقَ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. رواه البيهقي عَنْ قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هَذَا سَيِّدُنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ: انْظُرُوا أَصْبَحْنَا؟

قَالَ: فَقِيلَ: لَمْ نُصْبِحْ.

حَتَّى أُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ أَصْبَحْتَ.

قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ لَيْلَةٍ صَبَاحُهَا إِلَى النَّارِ؛ مَرْحَبَاً بِالمَوْتِ مَرْحَبَاً، زَائِرٌ مُغِبٌّ (قَلِيلُ الزِّيَارَةِ) حَبِيبٌ جَاءَ عَلَى فَاقَةٍ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَخَافُكَ، فَأَنَا الْيَوْمَ أَرْجُوكَ، إِنِّي لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ الدُّنْيَا وَطُولَ الْبَقَاءِ فِيهَا لِجَرْيِ الْأَنْهَارِ، وَلَا لِغَرْسِ الشَّجَرِ، وَلَكِنْ لِظَمَإِ الْهَوَاجِرِ، وَمُكَابَدَةِ السَّاعَاتِ، وَمُزَاحَمَةِ الْعُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ. رواه ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ.

يَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّنَا يَبْكِي على الدُّنْيَا ـ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى ـ وَلَكِنْ أَيْنَ مَنْ يَبْكِي على الدِّينِ إِذَا قَصَّرَ فِيهِ؟ أَيْنَ مَنْ يَبْكِي لِأَنَّهُ عَصَى اللهَ تعالى؟ أَيْنَ مَنْ يَبْكِي لِأَنَّهُ اتَّصَفَ بِبَعْضِ صِفَاتِ المُنَافِقِينَ؟ أَيْنَ مَنْ يَبْكِي إِذَا فَاتَتْهُ الطَّاعَاتُ وَالقُرُبَاتُ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الإِيمَانُ يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ، وَيَنْقُصُ بِالمَعَاصِي، فَمَنْ فَعَلَ الطَّاعَاتِ بَنَى إِيمَانَهُ، وَمَنْ فَعَلَ المَعَاصِي بَدَأَ بِهَدْمِ إِيمَانِهِ، وَالبِنَاءُ صَعْبٌ، وَالهَدْمُ سَهْلٌ، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلَاً صَالِحَاً وَآخَرَ سَيِّئَاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

حَالُنَا اليَوْمَ بِنَاءٌ وَهَدْمٌ، صَلَوَاتٌ وَصِيَامٌ وَتِلَاوَةُ قُرْآنٍ؛ وَلَكِنَّ البَعْضَ أَطْلَقَ العِنَانَ لِسَمْعِهِ وَلِبَصَرِهِ وَلِيَدِهِ، فَلَا يُحِلُّ حَلَالَاً وَلَا يُحَرِّمُ حَرَامَاً، يَسْمَعُ إلى المَعَاصِي، وَيَنْظُرُ إلى المَعَاصِي، وَيَمُدُّ يَدَهُ إلى الحَرَامِ، يَبْنِي وَيَهْدِمُ، لِذَا رَأَيْنَا اليَوْمَ مَنْ يَبْكِي على الدُّنْيَا لَا على الدِّينِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، وَلَا أَدَلَّ على ذَلِكَ عِنْدَمَا تَرَى الكَثِيرَ مِنَ المُسْلِمِينَ مَنْ يَسْتَعِدُّ لِإِحْيَاءِ لَيْلَةِ رَأْسِ السَّنَةِ بِالمَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وَيَدْعُونَ إلى إِحْيَائِهَا في مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى؛ رَغْمَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ حَرْبٍ وَسَفْكٍ للدِّمَاءِ؛ وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ هَذَا؛ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ إِيمَانَاً يُبَاشِرُ قُلُوبَنَا، وَيَقِينَاً صَادِقَاً حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبْتَهُ لَنَا؛ اجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مِمَّنْ يَبْكِي على دِينِهِ إِذَا فَاتَ، لَا على دُنْيَاهُ الفَانِيَةِ التَّافِهَةِ الحَقِيرَةِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 1/ ربيع الثاني /1438هـ، الموافق: 30/كانون الأول / 2016م