526ـ خطبة الجمعة: لا تَبْكِ على هذا، ولكن ابْكِ

 

526ـ خطبة الجمعة: لا تَبْكِ على هذا، ولكن ابْكِ

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: مَا هِيَ الخَسَارَةُ الكُبْرَى، وَالبَلِيَّةُ العُظْمَى، وَالحَسْرَةُ الجُلَّى، التي يَجِبُ أَنْ تَبْكِيَ قُلُوبُنَا عَلَيْهَا دَمَاً، وَأَنْ تَفِيضَ دُمُوعُنَا لِأَجْلِهَا دَمْعَاً، وَأَنْ تَحْتَرِقَ قُلُوبُنَا عَلَيْهَا احْتِرَاقَاً؟ هَلْ هِيَ إِذَا سُرِقَتْ أَمْوَالُنَا، وَهُدِّمَتْ بُيُوتُنَا، وَفَقَدْنَا الأَحِبَّةَ الذينَ غَادَرُونَا بِالقَتْلِ ظُلْمَاً وَعُدْوَانَاً؟ هَلْ هِيَ في ضَيَاعِ المَنَاصِبِ وَالجَاهِ وَالسِّيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ؟ هَلْ هِيَ في ضَيَاعِ الصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ، أَو في تَقْطِيعِ الأَطْرَافِ؟ أَمْ بِالأَمرَاضِ الَّتِي حَلَّت فِي قُلُوبِنَا حَتَّى ذَهَبَتْ بِالوَازِعِ الإِيمَانِيِّ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ الخَسَارَاتُ لَوْ وَضَعْنَاهَا في مَقَايِيسِ الفِقْهِ وَالإِيمَانِ، وَفِي مَقَايِيسِ الشَّرْعِ لَوَجَدْنَاهَا وَاللهِ نِعَمَاً لَا نِقَمَاً، لَوْ وَضَعْنَا هَذِهِ الخَسَارَاتِ التي نَبْكِي عَلَيْهَا في مِيزَانِ الشَّرْعِ لَوَجَدْنَاهَا نِعَمَاً يَسْتَحِقُّ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا وَالحَمْدَ وَالثَّنَاءَ وَالرِّضَا، لِأَنَّهَا تَكْفِيرٌ لِسَيِّئَاتِنَا، وَرَفْعٌ فِي دَرَجَاتِنَا، وَسَبَبٌ لِنَيْلِ الأَجْرِ الذي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تعالى، أَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَـشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾؟ أَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؟

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الخَسَارَةَ الحَقِيقِيَّةَ، وَالبَلِيَّةَ العُظْمَى، التي يَجِبُ أَنْ تَبْكِيَ قُلُوبُنَا عَلَيْهَا دَمَاً، وَعُيُونُنَا دَمْعَاً، هِيَ الأَمْرَاضُ التي حَلَّتْ في قُلُوبِنَا، وَالتي ذَهَبَت بِالوَازِعِ الإِيمَانِيِّ الذي يُحَرِّكُ القُلُوبَ لِآيَاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِمَوَاعِظِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

إِنَّ الخَسَارَةَ الحَقِيقِيَّةَ، وَالبَلِيَّةَ العُظْمَى، التي يَجِبُ أَنْ تَبْكِيَ قُلُوبُنَا عَلَيْهَا دَمَاً، وَعُيُونُنَا دَمْعَاً، هِيَ الذُّنُوبُ وَالمَعَاصِي، التي قَارَفْنَاهَا وَجَعَلَتْ في النُّفُوسِ هُمُومَاً، وَأَحْزَانَاً، وَحَسَرَاتٍ.

الخَسَارَةُ الحَقِيقِيَّةُ التي يَجِبُ أَنْ نَبْكِيَ عَلَيْهَا:

يَا عِبَادَ اللهِ: الخَسَارَةُ الحَقِيقِيَّةُ التي يَجِبُ أَنْ نَبْكِيَ عَلَيْهَا دَمَاً عِوَضَاً عَنِ الدَّمْعِ، هِيَ الأَمْرَاضُ التي حَلَّتْ في قُلُوبِنَا، فَحَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ آيَاتِ القُرْآنِ التي تُتْلَى عَلَيْنَا، فَلَا يَرِقُّ القَلْبُ لَهَا، وَلَا تَدْمَعُ العَيْنُ مِنْهَا.

الخَسَارَةُ الحَقِيقِيَّةُ هِيَ الدَّاءُ الذي حَلَّ بِقُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى أَذْهَبَ مِنْ قُلُوبِهِمُ الوَازِعَ الإِيمَانِيَّ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ، الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ؛ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعَرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ» رواه الإمام أحمد عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هَذَا الدَّاءُ وَالمَرَضُ البَاطِنِيُّ الذي أَفْسَدَ المُضْغَةَ التي بِفَسَادِهَا فَسَادُ الجَوَارِحِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» رواه الشيخان عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

هَذَا الدَّاءُ وَالمَرَضُ البَاطِنِيُّ الذي أَفْسَدَ القَلْبَ الذي هُوَ المُعَوَّلُ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَيْنَ مَنْ يَبْكِي مِنْ هَذَا الدَّاءِ، دَاءِ الحَسَدِ وَالبَغْضَاءِ التي تَحْلِقُ الدِّينَ؟ لَقَدْ بَكَى مَنْ أُصِيبَ بِمَرَضِ السَّرَطَانِ، وَبَكَى مَنْ أُصِيبَ بِالفَشَلِ الكُلَوِيِّ، وَبَكَى مَنْ تَصَلَّبَتْ شَرَايِينُهُ، وَبَكَى وَبَكَى وَبَكَى ...

وَلَكِنْ أَيْنَ مَنْ يَبْكِي مِنْ هَذَا الدَّاءِ الذي أَفْسَدَ عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ إِذَا مَاتَ على ذَلِكَ؟

مَنْ مِنَّا لَا يَعْلَمُ بِأَنَّ دَاءَ الحَسَدِ وَالبَغْضَاءِ هُوَ الذي أَخْرَجَ إِبْلِيسَ مِنَ الجَنَّةِ عِنْدَمَا أَصَرَّ عَلَيْهِ؟ قَالَ تعالى: ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾؟

مَنْ مِنَّا لَا يَعْلَمُ بِأَنَّ دَاءَ الحَسَدِ وَالبَغْضَاءِ هُوَ الذي دَفَعَ الأَخَ لِقَتْل أَخِيهِ؟ قَالَ تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانَاً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

مَنْ مِنَّا لَا يَعْلَمُ بِأَنَّ دَاءَ الحَسَدِ وَالبَغْضَاءِ هُوَ الذي أَوْقَعَ إِخْوَةَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ في التَّفْكِيرِ في قَتْلِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِبْعَادِهِ عَنْ أَبِيهِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ كَانَتْ؟ قَالَ تعالى مُخْبِرَاً عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضَاً﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: قُولُوا لِمَنْ بَكَى على فَقْدِ مَالٍ أَو بَيْتٍ أَو مَصْنَعٍ أَو أَثَاثِ بَيْتٍ، أَو فَقْدِ حَبِيبٍ أَو تَقْطِيعِ أَطْرَافٍ: لَا تَبْكِ على هَذَا، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ خَسَارَةً لَكَ، بَلْ رِبْحٌ إِنْ صَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ، وَلَكِنِ ابْكِ إِذَا رَأَيْتَ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ دَبَّ إِلَيْكَ دَاءُ الأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ حَسَدٍ وَبَغْضَاءَ، وَحِقْدٍ وَتَكَبُّرٍ، فَأَفْسَدَ قَلْبَكَ، وَحَلَقَ دِينَكَ، فَإِذَا بِكَ لَمْ تَتَّعِظْ بِآيَةٍ مِنْ آيَاتِ اللهِ تعالى، وَلَا بِحَدِيثٍ مِنْ أَحَادِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَاللهِ هَذِهِ هِيَ المُصِيبَةُ الكُبْرَى، وَالخَسَارَةُ العُظْمَى.

ابْكِ على هَذَا الدَّاءِ إِذَا حَلَّ في قَلْبِكَ، لِأَنَّكَ أَصْبَحْتَ في خَطَرٍ عَظِيمٍ، هَلْ نَسِيتَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾؟ وَهَلْ نَسِيتَ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَصِفُ أَفْضَلَ النَّاسِ، فَقَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ».

قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟

قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ»؟ رواه ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

كَمْ مِنْ إِنْسَانٍ أُصِيبَ بِهَذَا الدَّاءِ وَهُوَ ضَاحِكٌ فَرِحٌ مَسْرُورٌ كَأَنَّهُ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ مُصِيبَةٌ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: مَنْ كَانَ بَاكِيَاً فَلْيَبْكِ على قَلْبِهِ إِذَا حَلَّ فِيهِ مَا لَا يُرْضِي اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.

نَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا أَنْ تُطَهِّرَ قُلُوبَنَا مِنَ الحِقْدِ وَالحَسَدِ وَالبَغْضَاءِ وَكُلِّ وَصْفٍ يُبَاعِدُنَا عَنْ مُشَاهَدَتِكَ وَمَحَبَّتِكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 8/ ربيع الثاني /1438هـ، الموافق: 6/كانون الثاني / 2017م