528ـ خطبة الجمعة: بكت أم أيمن، ونساؤنا يبكين

 

528ـ خطبة الجمعة: بكت أم أيمن، ونساؤنا يبكين

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا.

فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ؛ فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ. فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا.

يَا عِبَادَ اللهِ: هَلْ مِنْ وَقْفَةٍ مَعَ هَذِهِ الحَادِثَةِ القَصِيرَةِ التي انْطَوَتْ على خَيْرٍ وَفِيرٍ؟ هَلْ مِنْ وَقْفَةٍ مَعَ هَذِهِ السَّيِّدَةِ الجَلِيلَةِ أُمِّ أَيْمَنَ بَرَكَةَ مَوْلَاةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، والتي كَانَتْ حَاضِنَةً لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ والتي كَانَ يَقُولُ لَهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا: «يَا أُمَّهْ». وَكَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ: «هَذِهِ بَقِيَّةُ أَهْلِ بَيْتِي» رواه الحاكم.

مَعْرِفَتُهَا بِاللهِ تعالى، وَتَعْظِيمُهَا للوَحْيِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ السَّيِّدَةُ الجَلِيلَةُ عَرَفَتِ اللهَ تعالى، وَعَرَفَتْ قِيمَةَ الوَحْيِ فَعَظَّمَتْهُ، وَعَرَفَتْ قَدْرَ المُوحَى إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَعَشِقَتْهُ، وَعَرَفَتْ قَدْرَ دِينِهَا فَالْتَزَمَتْهُ، وَقَدْرَ كِتَابِ رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ فَتَلَتْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ وَوَقَفَتْ عِنْدَ حُدُودِهِ، فَبَكَتْ لِانْقِطَاعِ الوَحْيِ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

لَقَدْ بَكَتْ هَذِهِ السَّيِّدَةُ الجَلِيلَةُ على انْقِطَاعِ الوَحْيِ الذي كَانَ يَجْعَلُ العَبْدَ على بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَخَاصَّةً في المَوَاقِفِ الحَالِكَةِ المُدْلَهِمَّةِ وَالخُطُوبِ الجَسِيمَةِ.

بَكَتْ هَذِهِ السَّيِّدَةُ الجَلِيلَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا على هَذَا الوَحْيِ الذي كَانَ يُبَشِّرُ في الشَّدَائِدِ، وَيسَكِّنُ النُّفُوسَ، وَيُهَدِّئُ البَالَ، وَيُصْلِحُ الأَحْوَالَ، وَيَجْعَلُ العَبْدَ يَعِيشُ في الأَمَلِ وَهُوَ في وَسَطِ الأَلَمِ، وَيُخْرِجُهُ إلى الرَّخَاءِ بَعْدَ الضِّيقِ، وَإلى اليُسْرِ بَعْدَ العُسْرِ؛ بَكَتْ على انْقِطَاعِ الوَحْيِ الذي كَانَ عَزَاءً وَسُلْوَانَاً للإِنْسَانِ المُؤْمِنِ في سَائِرِ الأَحْوَالِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ الصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم رِجَالَاً وَنِسَاءً أَكْثَرَ أَجْيَالِ الأُمَّةِ إِدْرَاكَاً لِقِيمَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ، لَقَدْ أَدْرَكُوا مَعْنَى السَّعَادَةِ الحَقِيقِيَّةِ أَنَّهَا لَنْ تَكُونَ إِلَّا بِهَذَا القُرْآنِ العَظِيمِ، لَقَدْ عَاشُوا الحَيَاةَ قَبْلَ القُرْآنِ، وَعَاشُوهَا بَعْدَهُ، لَقَدْ عَاشُوا الحَيَاةَ قَبْلَهُ في شَقَاءٍ وَضَنْكٍ وَضَيَاعٍ، وَعَاشُوهَا بَعْدَهُ بِسَعَادَةٍ وَرَحْمَةٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، لَقَدْ حَزِنُوا حُزْنَاً شَدِيدَاً على انْقِطَاعِ الوَحْيِ، الذي هُوَ سِرُّ سَعَادَتِهِمْ.

ذَاقُوا حَلَاوَةَ الإِيمَانِ مِنْ خِلَالِ القُرْآنِ الكَرِيمِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ ذَاقَ الصَّحَابَةُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ مِنْ خِلَالِ القُرْآنِ العظِيمِ، وَأَدْرَكُوا قِيمَتَهُ، فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَانْشَغَلُوا بِهِ، وَانْجَذَبَتْ مَشَاعِرُهُمْ نَحْوَهُ لِدَرَجَةِ الاسْتِغْرَاقِ وَالهَيْمَنَةِ، هَيْمَنَ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَتَغَلْغَلَتْ مَعَانِي القُرآنِ العَظِيمِ في قُلُوبِهِمْ، فَهَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَسْمَعُ رَجُلَاً يَقْرَأُ: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾.

فَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى اشْتَدَّ بُكَاؤُهُ، ثُمَّ خَرَّ يَضْطَرِبُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ.

فَقَالَ: «دَعُونِي، فَإِنِّي سَمِعْتُ قَسَمَ حَقٍّ مِنْ رَبِّي» رواه ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ الشَّعْبِيِّ. هَلْ حَرَّكَ هَذَا شَيْئَاً في مَشَاعِرِنَا؟

بَكَتْ أُمُّ أَيْمَنَ، وَنِسَاؤُنَا يَبْكِينَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ بَكَتْ أُمُّ أَيْمَنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا على انْقِطَاعِ الوَحْيِ، وَنِسَاؤُنَا اليَوْمَ يَبْكِينَ؛ وَلَكِنْ على مَاذَا؟ ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾. لَنْ أَقُولَ على أَيِّ شَيْءٍ يَبْكِينَ؟ وَلَكِنْ أَقُولُ: لِيَسْأَلْ كُلٌّ مِنَّا نِسَاءَهُ وَمَحَارِمَهُ على مَاذَا يَبْكِينَ؟

يَا أَيَّتُهَا الأُمُّ، عَلَى مَاذَا تَبْكِينِ؟ يَا أَيَّتُهَا الزَّوْجَةُ، عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِينِ؟ يَا أَيَّتُهَا البِنْتُ، عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِينِ؟ يَا أَيَّتُهَا الأُخْتُ، عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِينِ؟ يَا نِسَاءَ هَذِهِ الأُمَّةِ، عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِينَ؟

أُمُّ أَيْمَنَ بَكَتْ لِأَنَّهَا سَمِعَتْ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابَاً مُتَشَابِهَاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾. وَكَانَ قَلْبُهَا سَلِيمَاً طَاهِرَاً نَقِيَّاً لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ وَلَا ضَغِينَةَ، لَقَدِ اقْشَعَرَّ جِلْدُهَا، وَدَمَعَتْ عَيْنَاهَا تَأَثُّرَاً بِكِتَابِ رَبِّهَا جَلَّ وَعَلَا؛ وَأَمَّا نَحْنُ وَنِسَاؤُنَا وَمَحَارِمُنَا عَلَى مَاذَا نَبْكِي؟ لِنُرَاجِعِ الحِسَابَاتِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَنْفُسِنَا، وَلْنَجْعَلِ المُقَارَنَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلَفِنَا الصَّالِحِ؛ عَلَى مَاذَا تَبْكِي الأُمَّةُ اليَوْمَ مِنْ رِجَالِهَا وَمِنْ نِسَائِهَا؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِسَيِّدِنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:: «اقْرَأْ عَلَيَّ».

فَقَالَ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟

قَالَ: «فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي».

فَقَرَأَ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى بَلَغَ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدَاً﴾.

قَالَ: «أَمْسِكْ». فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لِمَاذَا تَدْمَعُ عُيُونُنَا على الدُّنْيَا، وَلَا تَدْمَعُ إِذَا سَمِعْنَا آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْنَا؟ الجَوَابُ على ذَلِكَ: لِأَنَّ قُلُوبَنَا تَعَلَّقَتْ بِالدُّنْيَا، وَزَهِدَتْ في الآخِرَةِ.

أَمَّا السَّلَفُ الصَّالِحُ فَإِنَّ قُلُوبَهُم تَعَلَّقَتْ بِالآخِرَةِ، وَزَهِدُوا في الدُّنْيَا؛ لَقَدْ صَلَحَتْ قُلُوبُهُمْ، وَفَسَدَتْ قُلُوبُنَا إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى، وَفَسَدَتْ جَوَارِحُنَا، فَهَلْ مِنْ مُعَالِجٍ لِفَسَادِ قَلْبِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ الذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَلَاحُنَا وَنَجَاحُنَا يَوْمَ القِيَامَةِ بِسَلَامَةِ هَذَا القَلْبِ، لِنَكُنْ حَرِيصِينَ جَمِيعَاً عَلَى سَلَامَةِ هَذَا القَلْبِ مِنَ الحِقْدِ وَمِنَ الضَّغِينَةِ؛ وَالْتَزِمُوا قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئَاً؛ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ» رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. لِأَنَّ المُبَلِّغَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَزْرَعَ الفَسَادَ، يُرِيدُ أَنْ يُقَطِّعَ الأَرْحَامَ، وَأَنْ يَزْرَعَ الضَّغِينَةَ في قُلُوبِ الأُمَّةِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: أُمَّتُنَا مُمَزَّقَةٌ، فَلَا تَزِيدُوا التَّمَزُّقَ تَمَزُّقَاً؛ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرَاً أَوْ لِيَصْمُتْ

اللَّهُمَّ أَحْيِ قُلُوبَنَا بِذِكْرِكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 18/ ربيع الثاني /1438هـ، الموافق: 20/كانون الثاني / 2017م