530ـ خطبة الجمعة: المطلوب التوبة لا العصمة

 

530ـ خطبة الجمعة: المطلوب التوبة لا العصمة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: مَا دَامَ الإِنْسَانُ حَيَّاً على وَجْهِ الأَرْضِ فَسَتُوجَدُ الخَطِيئَةُ مِنْهُ، وَلَوْ خَلَا جِيلٌ مِنَ الخَطِيئَةِ لَخَلَا جِيلُ الأَصْفِيَاء، وَلَخَلَا خَيْرُ القُرُونِ على الإِطْلَاقِ؛ بَنُو آدَمَ لَا يُمْدَحُونَ بِعَدَمِ وُجُودِ الخَطَايَا، لِأَنَّ كُلَّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَلَكِنَّهُمْ يُمْدَحُونَ بِعَدَمِ الإِصْرَارِ، أَو المُجَاهَرَةِ فِي المَعَاصِي «وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» ﴿وَلَمْ يُـصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾. أَمَّا الإِصْرَارُ على الخَطِيئَةِ وَالمُجَاهَرَةُ فِيهَا فَهَذِهِ هِيَ مُصِيبَةُ المَصَائِبِ، وَرَزِيَّةُ الرَّزَايَا، وَبَلِيَّةُ البَلَايَا.

المَطْلُوبُ مِنَّا التَّوْبَةُ لَا العِصْمَةُ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا أَنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَطْلُبْ مِنَّا العِصْمَةَ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِوُسْعِنَا، وَلَكِنْ طَلَبَ مِنَّا التَّوْبَةَ وَالإِنَابَةَ وَالأَوْبَةَ قَبْلَ نِهَايَةِ الأَجَلِ، الذي لَا يَدْرِي أَحَدُنَا مَتَى يَأْتِيهِ.

قَالَ تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعَاً أَيُّهَ المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾. وَأَعْظَمُ الحَسَنَاتِ التَّوْبَةُ وَالإِنَابَةُ وَالأَوْبَةُ للهِ تعالى.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المُؤْمِنُ وَاهٍ رَاقِعٌ، فَسَعِيدٌ مَنْ هَلَكَ عَلَى رَقَعِهِ» رواه البزار عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

تَوْبَةٌ عَجِيبَةٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: كُلَّمَا عَظُمَ الإِيمَانُ بِاللهِ تعالى، وَبِاليَوْمِ الآخِرِ، وَأَيْقَنَ العَبْدُ بِأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، كُلَّمَا أَسْرَعَ إلى التَّوْبَةِ وَصَدَقَ فِيهَا خَشْيَةَ أَنْ يَمُوتَ عَلَى مَعصِيَةٍ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ على مَعْصِيَةٍ حَلَّتْ بِهِ مُصِيبَةُ المَصَائِبِ، وَذَاكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: اسْمَعُوا إلى هَذِهِ التَّوْبَةِ العَجِيبَةِ التي تُذْهِلُ العُقُولَ، روى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ سَبِيعَةَ القُرَشِيَّةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ حَدَّ اللهِ.

قَالَ: «اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ».

فَلَمَّا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا أَتَتْهُ؛ وَلَوْ لَمْ تَأْتِهِ مَا سَأَلَ عَنْهَا.

فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ وَضَعْتُ مَا فِي بَطْنِي.

قَالَ: «اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ».

فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ فَطَمْتُهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لِهَذَا الصَّبِيِّ؟».

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.

فَرُئِيَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الكَرَاهِيَةُ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهَا فَارْجُمُوهَا» / كَذَا في أسد الغابة.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَلَا تَتَعَجَّبُونَ مِنَ اعْتِرَافِهَا بِالفَاحِشَةِ وَإِقْرَارِهَا بِمَا فِيهِ حَتْفُهَا وَهَلَاكُهَا؟

أَلَا تَتَعَجَّبُونَ مِنْ تَرَدُّدِهَا على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دُونَ كَلَلٍ أَو سَآمَةٍ أَو جَزَعٍ؟ كُلُّ ذَلِكَ بِتَجَلُّد وَتَصَبُّرٍ نَادِرَيْنِ.

أَلَا تَتَعَجَّبُونَ مِنْ قَرَارِ الرَّجُلِ الأَنْصَارِيِّ الذي قَبِلَ رِعَايَةَ وَعِنَايَةَ وَلَدٍ مِن زِنَىً؟

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أَبَتْ هَذِهِ المَرْأَةُ القُرَشِيَّةُ الحُرَّةُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا بِدُونِ تَوْبَةٍ صَادِقَةٍ، أَبَت إِلَّا أَنْ تَلْقَى جَزَاءَهَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَبَتْ إِلَّا أَنْ تُذْهِبَ شَقَاءَهَا قَبْلَ مَوْتِهَا، وَأَرَادَتِ الرَّاحَةَ وَالأَمَانَ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ؛ لَقَدْ تَجَلَّدَتْ للحِجَارَةِ القَاسِيَاتِ مِنْ أَجْلِ إِرْضَاءِ رَبِّ البَرِيَّاتِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَتَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾. لِنَتَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾. لِنَتَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثَاً﴾.

كُونُوا على يَقِينٍ بِأَنَّهُ مَنْ كَانَ بِاللهِ تعالى أَعْرَفَ، كَانَ مِنْهُ أَخْوَفَ، وَمَنْ جَهِلَ بِاللهِ تعالى اجْتَرَأَ على مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، وَأَصَرَّ على مَعْصِيَتِهِ وَجَاهَرَ بِهَا ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ.

يَا عِبَادَ اللهِ: عَلِمَ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى ضَعْفَنَا فَلَمْ يَطْلُبْ مِنَّا العِصْمَةَ، وَلَكِنْ طَلَبَ مِنَّا التَّوْبَةَ وَرَغَّبَنَا فِيهَا، فَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾. فَهَلْ يُعْلِنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا تَوْبَتَهُ للهِ تعالى مِمَّا هُوَ وَاقِعٌ فِيهِ؟

وَهَلْ نَسْمَعُ وَنَتَدَبَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلَاً عَظِيمَاً * يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفَاً﴾.

فَلِمَنْ نَسْتَجِيبُ؟!

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حَقَّ الحَيَاءِ مِنْكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 6/ جمادى الأولى /1438هـ، الموافق: 3/شباط / 2017م