531ـ خطبة الجمعة: الموت قادم

 

531ـ خطبة الجمعة: الموت قادم

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: وُجُودُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا مُؤَقَّتٌ وَمَحْدُودٌ بِأَجَلٍ ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾. وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا اثْنَانِ، كُلُّنَا مَيِّتٌ، حَقِيقَةٌ تَنَاسَيْنَاهَا ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾.

يَقُولُ الحَسَنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا رَأَيْتُ يَقِينَاً أَشْبَهَ بِالشَّكِّ مِنْ يَقِينِ النَّاسِ بِالمَوْتِ مَعَ غَفْلَتِهِمْ عَنهُ، وَمَا رَأَيْتُ صِدْقَاً أَشْبَهَ بِالْكَذِبِ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّا نَطْلُبُ الْجنَّةَ مَعَ عَجْزِهِمْ عَنْهَا وَتَفْرِيطِهِمْ فِي طَلَبِهَا.

المَوْتُ قَادِمٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَتَذَكَّرْ هَذِهِ الحَقِيقَةَ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾. لَقَدْ بَيَّنَهَا اللهُ تعالى على مَدَى الزَّمَانِ وَالمَكَانِ، وَأَسْمَعَهَا لِكُلِّ الـبَشَرِ، فَلَا بَقَاءَ إِلَّا لِلْحَيِّ الذي لَا يَمُوتُ، حَقِيقَةٌ يَسْقُطُ عِنْدَ أَعْتَابِهَا الجَبَابِرَةُ، وَالمُعَانِدُونَ، وَالطُّغَاةُ، وَالمُتَأَلِّهُونَ، يَسْقُطُ عِنْدَ أَعْتَابِهَا العُصَاةُ وَالطَّائِعُونَ، وَالمُؤْمِنُونَ وَالكَافِرُونَ.

حَقِيقَةٌ يَجِبُ أَنْ تَتَذَكَّرَهَا الأُمَّةُ مِنْ قَضِّهَا إلى قَضِيضِهَا بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ، حَتَّى يَسْتَقِيمَ حَالُهَا، فَالحَاكِمُ إِذَا تَذَكَّرَهَا عَدَلَ، وَالمَسْؤُولُ إِذَا تَذَكَّرَهَا اتَّقَى اللهَ تعالى في رَعِيَّتِهِ، القَاتِلُ إِذَا تَذَكَّرَهَا أَسْرَعَ للاسْتِحْلَالِ مِنْ وَرَثَةِ المَقْتُولِ، السَّارِقُ وَآكِلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ إِذَا تَذَكَّرَهَا أَعَادَ الحُقُوقَ إلى أَصْحَابِهَا، الشَّابُّ إِذَا تَذَكَّرَهَا اتَّقَى اللهَ تعالى في أَعْرَاضِ النَّاسِ، الوَلَدُ إِذَا تَذَكَّرَهَا أَسْرَعَ لِبِرِّ وَالِدَيْهِ، العَاصِي إِذَا تَذَكَّرَهَا أَسْرَعَ إلى التَّوْبَةِ، وَالطَّائِعُ إِذَا تَذَكَّرَهَا اسْتَزَادَ مِنْ طَاعَتِهِ للهِ تعالى.

العَرضُ على اللهِ تعالى:

يَا عِبَادَ اللهِ: المَوْتُ قَادِمٌ وَالكُلُّ سَيَذُوقُهُ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ﴾. بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ، حَاكِمٌ أَو مَحْكُومٌ، طَائِعٌ أَو عَاصٍ، وَالمَوْتُ لَيْسَ هُوَ نِهَايَةَ المَطَافِ، بَلْ هُوَ بِدَايَةُ الحِسَابِ بَعْدَ دَارِ العَمَلِ.

سَيُنَادَى على كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ـ بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ ـ سَيُنَادَى على الحَاكِمِ وَالمَحْكُومِ، وَعَلَى القَاتِلِ وَالمَقْتُولِ، وَعَلَى السَّارِقِ وَالمَسْرُوقِ، وَعَلَى الظَّالِمِ وَالمَظْلُومِ، وَعَلَى المُفْسِدِ وَالمُصْلِحِ، وَعَلَى مَنْ سَعَى لِإِشْعَالِ نَارِ الحَرْبِ في هَذِهِ البِلَادِ وَمَنْ سَعَى لِإِطْفَائِهَا: قُمْ لِلْعَرْضِ على اللهِ تعالى.

قَالَ تعالى: ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدَاً﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ إِنَّ الأَمْرَ جِدُّ خَطِيرٍ «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» رواه الإمام مسلم عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

لِيَتَصَوَّرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا هَذَا المَوْقِفَ العَظِيمَ المَهِيبَ، عِنْدَمَا يُقَدَّمُ لِيُكَلِّمَهُ اللهُ تعالى، ثمَّ يُعْطَى بَعْدَ ذَلِكَ صَحِيفَةَ أَعْمَالِهِ، تِلْكَ الصَّحِيفَةَ التي أَحْصَتِ الصَّغِيرَةَ وَالكَبِيرَةَ، وَالسِّرَّ وَالعَلَانِيَةَ، وَالطَّاعَةَ وَالمَعْصِيَةَ؛ فَإِمَّا أَنْ يُعَطْاهَا بِيَمِينِهِ، فَيَقُولُ على رُؤُوسِ الأَشْهَادِ: ﴿هَاؤُمُ اقْرؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾.

وَإِمَّا أَنْ يُعْطَاهَا بِشِمَالِهِ، فَإِذَا بِهِ يَقُولُ: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعَاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: البَابُ للاصْطِلَاحِ مَعَ اللهِ تعالى مَا زَالَ مَفْتُوحَاً، يَا أَهْلَ بِلَادِ الشَّامِ، بَابُ الاصْطِلَاحِ مَعَ اللهِ تعالى مَفْتُوحٌ، فَهَلْ مِنْ تَائِبٍ قَبْلَ مَوْتِهِ لِيَفُوزَ؟

يَا مَنْ جَارَ وَظَلَمَ، يَا مَنْ طَغَى وَتَكَبَّرَ، يَا مَنْ كَانَ لِآيَاتِ اللهِ عَنِيدَاً، يَا مَنْ تَلَاعَبَ بِأَحْكَامِ الـشَّرِيعَةِ حَتَّى أَوْقَدَ نَارَ هَذِهِ الحَرْبِ، يَا مَنْ قَتَلَ وَيَا مَنْ سَلَبَ، أَنْتَ لَسْتَ مَعْصُومَاً، وَمَا كَلَّفَكَ اللهُ أَنْ تَكُونَ مَعْصُومَاً، إِنَّمَا أَنْتَ خَطَّاءٌ، وَقَدْ كَلَّفَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّوْبَةِ، فَهَلْ تَتُوبُ إلى اللهِ تعالى قَبْلَ مَوْتِكَ، حَتَّى لَا تَنْدَمَ عِنْدَ عَرْضِكَ على اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ؟

أَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ هَذَا العَبْدَ الذي حَدَّثَ عَنْهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

روى الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟

فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ.

حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ».

يَا أَيُّهَا الخَطَّاءُ، لَا تَكُنْ عَنِيدَاً وَاسْمَعْ وَصِيَّةَ العَبْدِ الصَّالِحِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ: إِيَّاكُمْ وَالْكِبْرَ، إِيَّاكُمْ وَالْإِعْجَابَ بِالْأَعْمَالِ، انْظُرُوا إِلَى مَنْ دُونِكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ فَوْقَكُمْ، مَنْ ذَلَّلَ نَفْسَهُ رَفَعَهُ مَوْلَاهُ، وَمَنْ خَضَعَ لَهُ أَعَزَّهُ، وَمَنِ اتَّقَاهُ وَقَاهُ، وَمَنْ أَطَاعَهُ أَنْجَاهُ، وَمَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ أَرْضَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَمَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ، وَمَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ، وَمَنْ شَكَرَهُ جَازَاهُ؛ فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَزِنَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُوزَنَ، وَيُحَاسِبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ، وَيَتَزَيَّنَ وَيَتَهَيَّأَ لِلْعَرْضِ عَلَى اللهِ الْعَلِيِّ الْأَكْبَرِ. /حِلْيَةُ الأَوْلِيَاءِ.

زَيِّنْ نَفْسَكَ بِالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ قَبْلَ أَنْ يُنَادَى عَلَيْكَ: قُمْ لِلْعَرْضِ على اللهِ تعالى.

اللَّهُمَّ بَيِّضْْ وُجُوهَنَا يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 13/ جمادى الأولى /1438هـ، الموافق: 10/شباط / 2017م