3ـ كلمة شهر ربيع الأول لعام 1428هـ (لكل حق حقيقة)

 

سيدي يا رسول الله

كيف ترقى رقيك الأنبياء يا سماء ما طاولتها سماء

لم يجاروك في علاك وقد حال سناً منك دونهم وسناء

إنما مثلوا صفاتك للناس كما مثل النجوم الماء

أنت مصباحُ كل فضل فما تصدر إلا عن ضوئك الأضواء

الناس يشهدون انفصالاً بين القول والعمل، بين الدعوى والحقيقة، والمثال والواقع، والمثال دائماً كان فوق الواقع، والدعوى أكبر من الحقيقة، والقول أعظم من الفعل.

وهذه الظاهرة معلومة عند الناس، غير أنها تكاد تكون مفقودة في أتباع النبي صلى الله عليه وسلم المخلِصين المخلَصين، وهي على النقيض تماماً في حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حيث تجد تماماً في حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعه أعظم من كل تصور نظري، فهو صلى الله عليه وسلم سما إلى أعظم قمة في السمو، ومثَّل بسلوكه صلى الله عليه وسلم الدعوة التي يدعو الناس إليها، وهذا من أعظم الأدلة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، إذ الالتزام بالسمو لا تطيقه النفس إذا لم تتزك، والإنسان يعرف هذا من خلال الواقع.

انظر في حياة المنافقين الذين قلدوا المسلمين في ظاهرهم، لا تجد لهم حالة واحدة بالتطبيق، إذا كانوا في خلواتهم كانوا على حال، وإذا كانوا في جلواتهم كانوا على حال آخر مناقض للحالة الأولى، {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون}.

وها نحن في شهر ربيع الأول، شهر المولد الشريف المبارك، ننادي كل محب لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يجسد قوله عملاً، ودعواه حقيقة، ومثاله واقعاً، فكل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام، اللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قبله.

ننادي كل محب بقول الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}.

ننادي كل محب صادق بقول الله عز وجل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}.

ونذكر كل محب بقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) رواه البخاري ومسلم، والمحب لا شك أنه متابع لمحبوبه.

فيا أيها المحب، يا أيها المشتاق، يا أيها المؤمن: ذكر شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وسماع أوصافه ونعوته، تحيي قلوب المحبين، وتطرب أرواحهم وعقولهم، وتزيد في حبهم، وتحرك اشتياقهم، كما قال الشيخ الكبير العارف بالله أبو مدين رحمه الله تعالى:

ونحيا بذكراكم إذا لم نراكم ألا إن تذكار الأحبة ينعشنا

فلولا معانيكم تراها قلوبنا إذا نحن أيقاظ وفي النوم إن غبنا

لمتنا أساً من بعدكم وصبابة ولكنَّ في المعنى معانيكم معنا

يحركنا ذكر الأحاديث عنكم ولولا هواكم في الحشا ما تحركنا

ورحم الله تعالى من قال:

أخلايَ إن شط الحبيب وربْعه وعز تلاقيه، وناءت منازلهْ

وفاتكم أن تنظروه بعينكم فما فاتكم بالسمع هذي شمائلهْ

أيها المحب الصادق المخلص، انظر إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف جعل الواقع فوق المثال، والفعال أعظم من الأقوال، والحقيقة أعظم من الدعوى.

قال مولانا جل في علاه له صلى الله عليه وسلم: {فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين}.

وقال له تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}.

جسد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة وعملاً وواقعاً، فلما كانت غزوة أحد، وكسرت رَباعيته صلى الله عليه وسلم، وجرح في شفته السفلى، وشج في جبهته الشريفة حتى سال منه الدم، فجعل ينشفه لئلا ينزل على الأرض، ويقول صلى الله عليه وسلم: (لو وقع منه شيء على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء).

شق ذلك على الصحابة رضي الله عنهم، فقالوا: لو دعوت الله عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما لم أبعث لعَّاناً، ولكن بعثت داعية ورحمة، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).

فكان عفوه صلى الله عليه وسلم بدافع من خلق الرحمة، الذي من شأنه أن يملك القلوب، ويستولي عليها بالمحبة.

روى البخاري ومسلم عن أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بُردٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء.

فظاهرة عفوه صلى الله عليه وسلم لم تكن خاصة مع من آمن به واتبعه، بل شملت غير المسلمين، لما في هذا الخلق من أثر في النفوس، وفيه مظنة لإصلاحهم، أو تخفيف شرورهم، أو تهديم ما في قلوبهم من غيظ وحقد وحسد، أو مظنة لتحقيق ذلك في أهليهم وذراريهم وأقوامهم، أو آخرين يشهدون أو يسمعون.

ومن روائع عفوه صلى الله عليه وسلم ما حصل في غزوة بني المصطلق، من كبير المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل مع أصحابه على ماء المريسيع، فجاء سِنانُ بن وَبَر الجُهَنيّ وعلى الماء جمع من المهاجرين والأنصار، فأدلى دلوه، وأدلى جهجاه بن مسعود الغِفاري أجير عمر بن الخطاب، فالتبست دلو سِنان ودَلو جَهْجاه، وتنازعا، فضرب جهجاه سِناناً فسال الدم، فنادى سنان: يا لَلأنصار، ونادى جهجاه: يا لَلمهاجرين، فأقبل جمع من الحيَّين، وشهروا السلاح حتى كادت أن تكون فتنة عظيمة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما بال دعوى الجاهلية)؟! فأخبر بالحال فقال: (دعوها فإنها منتنة، ولينصر الرجل أخاه ظالماً كان أو مظلوماً، فإن كان ظالماً فلينهه، وإن كان مظلوماً فلينصره). وكان عبد الله بن أبيّ جالساً مع عشرة من المنافقين، وفي القوم زيد بن أرقم رضي الله عنه وهو غلام لم يبلغ الحلم، فبلغ ابنَ أبيّ صياح جهجاه، فغضب غضباً شديداً، وقال: والله ما رأيت كاليوم قط، والله إن كنت لكارهاً وجهي هذا، ولكن قومي غلبوني، أوَقد فعلوها؟ لقد نافَرونا وكاثرونا في بلدنا، وأنكروا مِنَّتنا، والله ما صِرنا وجَلابِيب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمِّن كلبك يأكلْك، والله لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفاً يهتف بما هتف به جَهْجاه، وأنا حاضر لا يكون لذلك مِنِّي غِيَرٌ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضر من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أنزلتموهم بلادكم فنزلوا، وأسهمتموهم في أموالكم حتى استغنوا، أما واللهِ لو أمسكتم ما بأيديكم لتحوَّلوا إلى غير بلادكم، ثم لم يرضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضاً للمنايا، فقُتلتم دونه، فأيتمتم أولادكم وقلُلتم وكَثُروا. فقام زيد بن أرقم بهذا الحديث كله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده نفراً من المهاجرين والأنصار، فأخبره الخبر، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبَره وتغيَّر وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غُلام لعلك غضبتَ عليه! قال: لا والله يا رسول الله، فقد سمعتُه منه، قال: لعله أخطأ سمعُك، قال: لا والله يا رسول الله. قال: فلعله شُبِّهَ عليك، قال: لا والله يا رسول الله. وشاع في العسكر ما قال ابن أُبيّ، وليس للناس حديث إلا ما قال. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).

ثم جاء ابن أبيّ فحلف بالله ما قال ذلك ولا تكلم به.

وبلغ عبدَ الله بنَ عبدِ الله بن أبيّ مقالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن كنت تريد أن تقتل أبي فيما بلغك عنه فمُرني به، فوالله لأحملنَّ إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، والله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجلٌ أبرَّ بوالديْه مني، وما أكل طعاماً منذ كذا وكذا من الدهر ولا شرب شراباً إلا بيدي، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله فأدخل النار، وعفوُك أفضل، ومَنُّك أعظم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله ما أردت قتله ولا أمرتُ به، ولنُحسِنَنَّ له صُحْبته ما كان بين أظهرنا).

ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي العقيق تقدَّم عبد الله بن عبد الله بن أبي، فجعل يتصفَّح الركاب حتى مرَّ أبوه، فأناخ به، ثم وطئ على يد راحلته، فقال أبوه: ما تريد يا لُكَع؟ قال: والله لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتعلم أيهما الأعزُّ من الأذلّ: أنت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فجعل من مرَّ به من المسلمين يقولون: يا عبد الله أتصنع هذا بأبيك؟ حتى مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه، فقيل: عبد الله بن عبد الله بن أبيّ يأبى أن يأذن لأبيه حتى تأذن له، فمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله واطئ على يد راحلة أبيه، وابن أُبيّ يقول: لأنا أذلُّ من الصبيان، لأنا أذلُّ من النساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَلِّ عن أبيك) فخلَّى عنه.

ولما مات عبد الله بن أبي بن سلول، جاء ولده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب منه قميصه ليكفن أباه به، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلِّ عليه واستغفر له، فأعطاه قميصه وقال: فإذا فرغت منه فآذنّا، فلما فرغ آذنه، فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة قال سيدنا عمر: تحولتُ حتى قُمت في صدره، فقلت: يا رسول الله، أعلى عدوِّ الله عبد الله بن أبيّ القائل يوم كذا كذا وكذا، يَعُدُّ أيامه. قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: أخِّر عني يا عمر، إني خُيِّرت فاخترتُ، قد قيل لي: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} لو أعلم أني لو زدت على السبعين غُفر له لزدت. قال: ثم صلى عليه ومشى معه فقام على قبره حتى فُرغ منه. قال عمر: فعُجبَ لي وجُرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم. فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} إلى آخر الآية. قال: فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله. وكان ذلك منه صلى الله عليه وسلم مداراة لمشاعر الولد المؤمن البار بأبيه.

سيدي يا رسول الله: بلغتنا قول الله عز وجل: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حُمِّل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين}.

نشهدك يا سيدي يا رسول الله أنا سنطيعك ونتبعك، ليتحقق وعد الله لنا بالهداية، أنت يا سيدي يا رسول الله جسدت هذا التشريع بسلوكك، فأظهرت الحقيقة، فملأت عقول الناس المنصفين إقناعاً بمنهجك الذي أتيت به من ربك جل جلاله.

نعم يا سيدي يا رسول الله، في شهر مولدك نقول لك: أنت أسوتنا، أنت قدوتنا، ولن نعدل عن ذلك ما حيينا إن شاء الله تعالى، ونسأل الله العون على ذلك، وبعد ذلك نقول:

يا هذه الدنيا أصيخي واشهدي أنَّا بغير محمدٍ لا نقتدي

فلك الحمد يا رب أن جعلتنا من أمته، ولك الحمد أن جعلته لنا نبياً ورسولاً، اللهم ثبتنا على نهجه حتى نلقاك وأنت راض عنّا، آمين. والحمد لله رب العالمين.                           

أخوكم أحمد النعسان

                                                                       يرجوكم دعوة صالحة

**     **     **